17-يوليو-2017

لقطة من الفيلم

وكأن شيئًا ما أمسك بتلابيبك وأحكم عليك الخناق، لا يتركك وشأنك فترتاح ولا يجهز بالألم عليك.

هكذا رسم فيلم "آخر أيام المدينة" 2016 للمخرج الشاب تامر السعيد تفاصيل مدينة القاهرة قبل أيام من ثورة يناير. عاينها من مسافة ملاصقة فبدت مأزومة وكأنها تقف على حافة الانفجار، ضجيج وازدحام ممزوج بأصوات مختلطة ومزيج من الصور لوجوه متعبة كأرواح تهيم في فضاء المدينة.

كل شيء في القاهرة يبدأ من صور الكباري والازدحام ويرافقه الضجيج والفوضى التي أخذت لنفسها أشكالًا كثيرة

خالد عبدالله شاب معماري يصور فيلم عن ذكرياته العائلية، يقلّب بالتفاصيل والذكرى، يثير الأسئلة محاولًا الوصول إلى سر عائلي ما، يتتبع أثر والده وأخته المتوفاة إثر حادث، يجري بحثه على خلفية تاريخية غير سهلة، فالشارع يغلي بمظاهرات "كفاية" التي تصدح بالصوت العالي مطالبةً بالحقوق والكرامة، وتطورات ردود الفعل بعد مباراة كرة القدم بين الجزائر ومصر، كما وأن الأنباء السارة الكاذبة من الرئيس لا تبشر بالخير فالكلام كثير عن الأمان والطمأنينة ولكن هذا مالا يشعر به الناس في الشارع.

كل شيء في القاهرة يبدأ من صور الكباري والازدحام ويرافقه الضجيج والفوضى التي أخذت لنفسها أشكالًا كثيرة تتجلى مرةً بصيحات الفرح بعد المباراة ومرةً أخرى في الوقفات الاحتجاجية.

يتابع خالد عمله على سيرته العائلية ويقطعها بالبحث عن شقة جديدة في منطقة وسط البلد، يقضي فيها جل وقته يتنقل بين أحياء المدينة ويدخل الزواريب يرى شققًا منهكة لا تصلح للعيش.

اقرأ/ي أيضًا: مفاجأة 2018: فيلم جديد لسكورسيزي يجمع جو بيشي ودي نيرو وال باتشينو

يتخلل مشواره اليومي زيارات طويلة ودورية إلى مستشفى السلام للاطمئنان على أمه المصابة بمرض لا تعرفه ولكن يقولون بأنه هشاشة العظام إثر التقدم في العمر. أو مرض ربما ناجم عن استعصاء النسيان وندوب الحاضر التي خلفها الماضي.

تبدو الأم/المدينة ثنائية حاضرة بقوة من خلال الإحساس بالمعاناة والعجز عن النهوض والتقدم خطوة واحدة، رغم أن خالد يحرث وسط البلد كل يوم، فهو محيطه اليومي والمجاني، إلاّ أن كل ذلك الوقت ينقضي بالخيبات والثرثرات مع السمسار، كما ويتمترس أمام مواد فيلمه يشاهد ويعيد المقاطع المصورة المتروكة لتجد معانيها وحدها، نعيش داخل فيلم خالد بارتباك أبطاله وحزنهم ضمن وثائقي يحوم في المدينة ويحاول توثيق أحاديث وذكريات.

لا ترابط في التفاصيل ولا أفكار مكتملة، كل شيء يبدأ ويترك بدون نهاية، وعدم التناسق يلف كل مايمكن أن يقال ويبقيه معلقًا، سأم وخوف وقلة صبر تجر بعضها بعضًا على مستويين من المشاهدة تنزاح على أثرهما الحدود والفواصل وتصبح أكثر لزوجةً بين الروائي والوثائقي، فتفكر هل الكاميرا وجدت هنا بمحض الصدفة أم أن هذا كله متفقٌ عليه؟ ولكنك تبقى بين عالمين مترادفين يكمل كل منهما الأخر.

الهشاشة التي تصاب بها الأم تنفلت على أحياء المدينة التي تقابل شقة خالد حيث واجهة زجاجية كبيرة لاتفتح إلاّ على الصورة فتمتد أمامنا مساحة كبيرة من العمران القديم المتاخم لعمرانٍ أخر مبني على عجل بجانبه أخر نصف مهدوم، هذه المدينة التي تقول لك بأنها أمٌ متعبة مريضة، فيها الكثير مما لم ينتهِ منذ زمن بعيد، وأشياء أخرى تتهدم بعنف لتتغول فيها أشياء طارئة وغير أصيلة.

يقبض تامر السعيد على لحظاتٍ دقيقة من عمر التغيير الذي تزحف إليه القاهرة راغبة بالعبور إلى الضفة الأخرى، ويرصد خط الشفق الفاصل بين الاهتراء والتمرد في أيام القاهرة الأخيرة وهواجس شاب يعيش لحظات ما قبل التحول الفعلي يعبر مخاضه ويدخل دوامته، حتى صار يرى مدينته مثله قاب قوسين أو أدنى من الانفجار.

يقبض تامر السعيد مخرج فيلم آخر أيام المدينة على لحظات دقيقة من عمر التغيير الذي تزحف إليه القاهرة

ليصبح هذا الوقت مرصود ولكن معلق بتأهب صامت. نعيش صعوبة كل ذلك بالرغم من أن القاهرة كمتروبول لا يمكن أن تقبض عليه عيناك وإن حدث فستبدو قبضة عمياء، لانفلاته وتمدده ولزوجته في تلك اللحظة الحرجة. لا شيء صريح إلاّ مطالب إسقاط النظام وكل ماتبقى هو مجرد ترقب.

يهطل العنف فجأةً فنشهد ولادة الوحش، تراقب الكاميرا عيون رجال الأمن المتمترسين أمام الاحتجاجات، وتلحظ الغضب الممزوج بالخوف من أصوات المحتجين، يصرخون يسقط حكم العسكر فيندلع الخوف من جديد، ماالذي سيحدث؟ تصيح تلك العيون وتراقب بصمت. وفي الأزقة المتاخمة للتمرد ملاحقات واعتقالات وشباب مهدد بالقتل.

ليست مجرد انطباعات عن حال المدينة تلك التي تصلنا خلال ساعتين من عمر الشريط الروائي الطويل، ولكنها لحظات دقيقة لغليان حقيقي لم تعد القاهرة قادرة على إخفائها، فهي ترزخ تحت ثقلها. فقد حان الوقت للبوح والقول والصراخ، فنرى الناس تتأهب له رغم التعب الظاهر، تريد التغيير كما تريد أن تتخطى تلك الفترة المشتعلة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "To Our Loves".. عن مآسي الحب

يلتقي خالد مع رفاقه وهم مخرجون عرب شباب حضروا في ملتقى سينمائي معًا، حيدر حلو من بغداد وباسم فياض من بيروت، وباسم حجار من بغداد التي تركها لاجئًا إلى برلين، تثار المواضيع والنقاشات حول معنى حب مدينة لا شيء يحيا فيها سوى الموت كبغداد، وأخرى من القبح مايجبرك على أن تدير لها وجهك وتنظر إلى البحر فهو المساحة الشاسعة الوحيدة المجانية في بيروت، وصوت متمرد يرى برلين ملجئًا رحبًا بالأمان.

فيكتبون بحوارهم في إحدى ليالي القاهرة قصائد حب ومرثيات في آنٍ معًا لمدن عربية متعبة باتت غير أصيلة وغالبًا قبيحة، محاولين فتح الخيال للمس القليل من الحياة في كل منها.

يطرح فيلم آخر أيام المدينة، واحد من الأسئلة الهامة "ماهي إمكانيات العيش في مدينة إشكالية كالقاهرة، وأين مكانك فيها؟"

مع اقتراب النهاية يتحول خالد لشبح يحوم في فضاء المدينة، وفي فضاءه الداخلي أو منفاه الشخصي إن صح التعبير، بين اليقين والشك يواجه أزمات أخرى، فتبدو القاهرة كمدينة ملتفة ومتكورة على أزماتها.

ليطرح فيلم "آخر أيام المدينة" واحدًا من الأسئلة الهامة "ماهي إمكانيات العيش في مدينة إشكالية كالقاهرة، وأين مكانك فيها؟" في طابور هائل يشارك بانتظار التغيير ويطالب به، لا يصل خالد لمكان، تهاجر حبيبته ليلى إلى بلد أخر فلم تعد تجد الحب في القاهرة، أمّا فيلمه فلم ينتهِ بعد بل ازداد تعقيدًا بعد تكدس تفاصيل المدينة والأسئلة الفردية والوعي الجمعي الذي يصرخ في الخارج.

نجح تامر السعيد بالتقاط اللحظة الحقيقية التي تسبق التحول وأخرج لنا فيلمًا جديدًا من الأفلام التي تحكي حكاية مدينة، ورسم صورة شخصية لجيل الشباب الذي واجه الموت والخسارة بنفس الوقت، وصار دون أن يدري عالقًا بين السلطة القمعية وغول التدين ولا مكان له بينهما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ديزني تختار المصري "مينا مسعود" لبطولة فيلم علاء الدين

أفضل 10 أفلام لسنة 2017 في رأي النقاد حتى الآن