13-يناير-2019

الروائي شريف مجدلاني

يُحرك الروائيّ اللبنانيّ شريف مجدلاني أحداث وشخصيات روايته "فيلّا النساء" (هاشيت أنطوان/ نوفل، 2018) ترجمة دانيال صالح، فوق أمكنةٍ وأزمنةٍ تُشكِّلان لهُ القدرة على إعادة ترتيب بعض الأحداث السياسية البارزة في تاريخ لبنان، منذ ستينات القرن الماضي، وإلى ما بعد اندلاع الحرب الأهلية.

يلتقط مجدلاني تحوّلات المجتمع اللبنانيّ منذ ستينيّات القرن الماضي إلى ما بعد اندلاع الحرب الأهلية

بين هذين الزمنين، ومن خلال راوٍ يُعيد سرد فصولٍ من حكاية إحدى العائلات المرموقة والثريّة التي كان يعمل سائقًا عند كبيرها، يلتقط شريف مجدلاني تحوّلات المجتمع اللبنانيّ السريعة مستندًا إلى تحوّلات البيئة المُحيطة بتلك العائلة، بمجتمعها المتنوّع دينيًا وطبقيًا. ويُحاول أن يُبيّن ويرسم للقارئ كلّ الظروف والأحداث التي ستقود إلى اندلاع الحرب الكبيرة تلك، مُنطلقًا، كما سبق وأن ذكرنا، من تلك البيئة الصغيرة. يفعل مجدلاني ذلك متجنّبًا الغوص المُباشر في هذه التفاصيل، مُعتمدًا بالدرجة الأولى على اللغة اليومية وسرد السائق لأحداثٍ وحكاياتٍ إمّا تعود إلى الماضي فتلتقط تفصيلًا ما، أو تسرد حادثةً وقعت لتوّها، وتشيرُ بالضرورة إلى حتمية وقوع الحرب.

اقرأ/ي أيضًا: جبور الدويهي.. حميمية السرد

استند الروائي بشكلٍ كبير إلى عائلة "آل حايك" البرجوازية وعلاقاتها مع العائلات الأخرى لصوغ تحوّلات المجتمعات اللبنانية. مثّلت العائلة التي نتعرّف إلى قصّة صعودها إلى مصافي العائلات الكبيرة، ومن ثمّ سقوطها المدوّي، مرآةً لتلك التحوّلات، إذ كان كلّ فردٍ من أفراد العائلة يعكسُ، بنمط حياته، وتصرّفاته وتقلّباته وعلاقته مع أفراد عائلته والآخرين، أجزاءً وصورًا منها، أي التحوّلات التي طرأت على المكان، وعصفت به، وسارعت في إنهاء حقبةٍ يُمكن وصفها بـ "الفردوس" واستبدلتها بأخرى يُمكن عنونتها، افتراضيًا، بحقبة البحث عن الفردوس المفقود، دون جدوى.

وفاة إسكندر حايك، كبير العائلة، مثّلت الهزّة الأولى التي زلزلت، دون هوادة، ركائز عائلته الصغيرة من جهة: أولاده وزوجته وشقيقته. والعائلة ككل من جهةٍ أُخرى. وكانت الإشارة الأولى إلى مدى إمكانية زوال ذلك الفردوس أيضًا، لا سيما بعد أن تولّى ابنه البكر نقولا إدارة أملاك العائلة وثروتها، لتتبخّر بين يديه سريعًا، ويصمّ الصوت المدوّي لسقوط العائلة آذان أفرادها، وتحديدًا مادو، شقيقة اسكندر التي رأت نفسها مؤتمنةً بعد وفاة شقيقها على أملاك آل حايك، والحفاظ على عظمة العائلة. هكذا، بدأت الخلافات بين أفراد العائلة تطفو إلى السطح بعد وفاة اسكندر، وتأخذ شكلًا أكثر حدّة مما كانت عليه سابقًا، لا سيما الخلاف على زعامة الفيلّا وتسيير أمورها بين مادو وماري، زوجة إسكندر. عدا عن خلافاتٍ أخرى ظهرت بين أبناء إسكندر، نقولا الذي أضاع ثروة العائلة، وشقيقته كارين التي عارضت أفعاله المتهوّرة، والتي أفقدت آل حايك عظمتهم بين العائلات الأخرى الكبيرة في المنطقة. خلافات ونزاعات مُباشرة وغير مُباشرة أفقدت الفيلّا الألفة التي تنعّمت بها سابقًا، أي في عهد إسكندر، وحوّلتها إلى مكان يضمّ بشرًا مشغولين بترتيب عزلاتهم وبقائهم بمعزلٍ عن بعضهم البعض، ما وجب تقسيم الفيلّا إلى طابقٍ سُفليّ وآخر علويّ، تمامًا كفكرة بيروت شرقية وأخرى غربية في أثناء الحرب التي كانت تعيش آنذاك، مع بدايات الخلاف داخل الفيلّا، أيامها الأولى والأشدّ عنفًا.

بالإضافة إلى الخلافات التي ظهرت إلى العلن بعد وفاة إسكندر، يُمكن القول إن تلك الوفاة أفسحت مجالًا لكلّ فردٍ من أفراد العائلة للاعتراف والبوح بحكاياتٍ من الماضي ظلّت سرًّا. وأعطت أفراد العائلة مساحة كبيرة لتطهير النفس من ذنوبها، وإفراغها من أسرار أثقلتها طيلة سنواتٍ مضت أيضًا. هكذا، باحت ماري، زوجة إسكندر، بإمكانية أن يكون نقولا، ابنها البكر، ليس من صلب زوجها، وإنّما من حبيبها السابق الذي افترقت عنهُ بفعل فقره وثراء عائلتها الفاحش، وأنّها طيلة سنوات إقامتها مع إسكندر، لم يكن هناك ما يشغل تفكيرها سوى بديع جبيلي، أي حبيبها. اعترافاتٍ خطيرة كهذه قادت مادو التي كانت ضحية علاقة عاطفية فاشلة لازمتها حتّى وفاتها إلى الاعتراف أيضًا بمدى ما تحملهُ من كرهٍ لعائلتها والثروة التي تملكها، وكلّ ما يتعلّق بها، وأنّها حين منعت نقولا من إنقاذ إرث العائلة، إنّما فعلت ذلك لكي تندثر دون رجعة، وتتخلّص من الحمل الذي أثقل كاهلها، وأفسد الجزء الأهم من حياتها كامرأة، أي زواجها.

يُبدي شريف مجدلاني شغفًا واضحًا في مُعاينة وتفحّص العلاقات الإنسانية والاجتماعية داخل العمل، بصورةٍ عامّة أو عابرة: مُحيط فيلّا آل حايك، حيّ عين الشير، وما هو أبعد منهما أيضًا. وبصورةٍ أُخرى خاصّة وأشدّ التزامًا: عوالم فيلّا آل حايك الداخليّة، أفراد العائلة، خدَمها، ذكورٌ وإناث معًا. في كلّ مكان يأتي شريف مجدلاني على ذكره في العمل، افتراضيًا، هنالك بشر يُؤسِّسون، من خلال علاقاتٍ إنسانية واجتماعية تربطهم ببعضهم البعض، وعبر تجارب مختلفة، صورًا لمجتمع كامل كان قائمًا آنذاك. أو ربّما صورة مجتمعٍ برجوازيّ يعيش تصدّعات داخلية تعصفُ بأساسات بنائه، وتمهّد لانتهاء وجوده، أو على الأقلّ وجود بعض العائلات الكبيرة فيه.

يُبدي شريف مجدلاني شغفًا واضحًا في مُعاينة وتفحّص العلاقات الإنسانية والاجتماعية داخل العمل

شغف شريف مجدلاني في وضع العلاقات والروابط الاجتماعية بين شخصيات الرواية تحت المجهر، ينبع من شغفٍ آخر في إظهار مدى ضعف واهتراء هذه العلاقات من جهة، والتناقضات الضخمة التي تحكمها من جهةٍ أُخرى. هكذا، تُبدي هذه العلاقات قابليةً غير طبيعية لاحتواء كلّ ما يُهدِّد وجودها، ويعمل على زوالها، بغضّ النظر عن طبيعتها وخصوصيَّتها ومتانتها وحالتها السابقة. ومن جانب آخر، تظهرُ دائمًا على استعداد مُفاجئ ومُربك لإعادة إصلاحها واستثمارها من جديد، بغضّ النظر عن الأسباب القهرية التي أحدثت سابقًا الشرخ فيما بينها.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة صهيب أيوب

يتمثّل ذلك بوضوح في الفصول الأخيرة من الرواية، حين تتصالح ماري، زوجة اسكندر حايك، مع مادو، شقيقته، بعد سنواتٍ من الحرب على زعامة الفيلّا التي وقعت المرأتان معًا ضحية مُلَّاكها، الأولى حين تزوّجت مُرغمةً اسكندر لتكون جسر تحالفاتٍ جديدة بين آل حايك وآل غصن، والثانية حين فشل زواجها لأسبابٍ عدّة تعود جميعها بصورةٍ مُباشرة إلى ثراء عائلتها. هكذا، تكون علاقة شخصيات العمل ببعضها البعض علاقات مُحيّرة، لا ترتكن إلى خطٍّ مُعين تسير وفقًا لهُ، ولا تُحاول فعل ذلك أساسًا، وإن كانت بعض هذه الشخصيات تعيش وفق خطٍّ واحد وواضح ولا تخرج أو تحيد عنهُ إطلاقًا. الأمر الذي ينعكس دون شك على المجتمع اللبنانيّ ككل، لا سيما الأطراف المتنازعة في الحرب الأهلية، أولئك الذي كانوا يعقدون هُدنًا مهترئة كالعلاقات التي تظهر في عمل شريف مجدلاني الروائيّ هذا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في رواية "السقوط من عدن".. هذه هي الحياة باختصار

علوية صبح.. عزلة في منطقة الاشتباك