15-ديسمبر-2015

أحد الجنود اللبنانيين المحررين بعد الصفقة مع جبهة النصرة (Getty)

تتناول هذه المقالة عملية تبادل الأسرى التي جرت بين الحكومة اللبنانية وجبهة النصرة في الثاني من كانون الأول/ديسمبر الجاري. بلال صعب هو باحث في مركز برنت سكوكروفت للأمن القوميّ.



في الثاني من كانون الأول الجاري أطلقت جبهة النصرة التي تمثّل تنظيم القاعدة في سوريا سراح ستة عشر من رجال الأمن والجيش اللبناني مقابل تسعة وعشرين من جبهة النصرة وأطفالهم كانوا مسجونين في لبنان وسوريا. لقد كان مشهد تبادل الأسرى هذا محطّ اهتمام واسع حتّى أنّ قنوات فضائية لبنانية وقطرية نقلته في بثّ مباشر، ولكنّ رمزيّة هذه العملية وأهميتها الاستراتيجية وأبعادها الإقليمية تحوّلت فورًا إلى عناوين لجدالات طويلة واختلافات عميقة في المواقف ووجهات النظر.

جبهة النصرة استفادت من الصفقة بالإضافة إلى تأمين عرسال من تشكيل تلك الصورة عن الجماعة التي تمتلك شيئًا من الرأفة والبراغماتية بخلاف داعش

سارع الكثير من اللبنانيين إلى انتقاد العمليّة. ففي الوقت الذي كان فيه الأسرى المحررون يعانقون أهاليهم في بيروت لدى عودتهم أخذ الإعلاميون اللبنانيون يستنكرون تلك "الكارثة التي وقعت" على حد تعبيرهم، وراح سياسيون من جميع الأطياف يوجهون أصابع الاتهام لحكومتهم التي أتمّت "صفقة مع الشيطان". فنبيه بري، رئيس مجلس النواب الذي تربطه علاقة وثيقة بحزب الله قد وصف ما جرى بأنّه "فضيحة تمس سيادة الدولة"، وذلك على الرغم من أنّ حزب الله قد أدّى دورًا أساسيًا في إنجاح العملية.

ويمكننا من خلال النظر إلى مكاسب كل طرف بيان فهم هذا المزاج العام من الغضب والصدمة على الساحة اللبنانية ولنبدأ بالإيجابيات، ولعل أولاها هي أنّ الجنود قد عادوا سالمين، وفي هذا رسالة من الحكومة في بيروت إلى الجيش بأنّها لن تتخلى عن جنود لبنان المختطفين مهما كلّف الأمر ومهما طال. ولكنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه العملية ستحقق بعض الرضا للضباط اللبنانيين، خاصة أنّ العديد من رفاقهم قد تعرضوا للقتل والذبح مؤخرًا على يد الجبهة. ومع هذا فإنّ النهايةَ الناجعة لهذه العملية قد ترفع من معنويات الجيش وتعزّز من تماسكه، لاسيّما وأنّه يعاني من بعض التفكك وينقصه التسليح الجيد وهو مع هذا يحاول التصدي للإرهاب ليل نهار في أطراف متعددة من الدولة خاصة على الحدود الشمالية مع سوريا.

أما الأمر الثاني فهو أنّه وبالرغم من ضبابية الأحداث إلا أنّ السلطات اللبنانية قد أعلنت أنّها لن تطلق سراح أي متطرفين إسلاميين متورطين بعمليات قتل أو إرهاب، رغم أنّ هذا أمر يصعب التحقق من جدّيته من دون الاطلاع على بعض المعلومات الحساسة.

والأمر الثالث والأكثر أهمية فهو أنّ الصفقة قد كانت نتاجًا أو إرهاصًا لعملية تسوية سياسية للشقاق السياسي على الساحة اللبنانية، خاصة بين حزب الله الشيعي وتيار المستقبل السني. والحق هو أنّ عملية التبادل هذه لم تكن لتتم لولا التعاون الذي حدث بين حسن نصر الله وسعد الحريري. فقد ذهب الحريري في زيارة للدوحة من أجل إقناع القطريين، الذين قاموا بدور الوساطة في هذه الأزمة التي استغرقت ستة عشر شهرًا، بأنّ اللواء عباس إبراهيم، كبير المفاوضين اللبنانيين ومدير الأمن العام اللبناني، شخصية يمكن الوثوق بها رغم دعمه الكبير لحزب الله.

في الوقت ذاته قام حسن نصر الله بإقناع حليفه بشار الأسد بالإفراج عن ثلاث نساء وتسعة أطفال كانوا في قائمة الأسرى الذين طالبت جبهة النصرة بالإفراج عنهم ضمن الصفقة (علمًا أنّ واحدة من أولاء النساء هي خالدية حسين زينية، أخت أبو مالك التلي زعيم الجبهة في منطقة القلمون). هذه الحالة من التعاون بين نصر الله والحريري قد تعطي فرصة للتوافق على انتخاب رئيس لبناني جديد بعد عام ونصف العام من الفراغ السياسي في البلاد.

أمّا ما شوّه هذه النجاحات فهو منظر أولئك الإرهابيين وهم يرفعون أعلام تنظيم القاعدة ويتحركون بلباسهم العسكري بحصانة كاملة على الأرض اللبنانية وفي وضح النهار، ولا شكّ في أنّ ذلك المشهد قد كان مؤلمًا وينطوي على الكثير من الإهانة للشعب اللبناني. لقد ظهرت الدولة اللبنانية بحالة من الضعف حين وافقت على إتمام الصفقة، أو يمكن القول على الأقل إنّها قد أرسلت رسالة مفادها أنّها لا ترفض التعامل مع الإرهابيين، وقد يترتب على ذلك حدوث المزيد من عمليات الخطف ولعله يغري الطرف الآخر برفع سقف المطالب أيضًا، علمًا أنّ في قبضة داعش حاليًا تسعة من أفراد الجيش والأمن اللبنانيين، ولسنا ندري ما الذي يمكن أن تقدّمه بيروت بعد الآن للإفراج عنهم. لا شكّ في أنّ داعش أكبر حجمًا وقوّة من جبهة النصرة، ولذا فإنها قد تكون أقدر منها على ابتزاز مطالب أكبر من الحكومة اللبنانية في حال قررت التفاوض على تحرير الأسرى. لكن حتى ولو تجاوزنا حالة الصدمة على المستوى الشعبي والتخوفات المتزايدة من أي عمليات مشابهة في المستقبل يبقى عجز الدولة اللبنانية عن طرد جبهة النصرة من الأراضي اللبنانية وسيطرة هذه الجماعة على مدينة عرسال في الشمال أوضح دليل على فشل الدولة في حماية سيادتها وسلامة أراضيها.

أما جبهة النصرة فقد استفادت ربما بالإضافة إلى تأمين عرسال من تشكيل تلك الصورة عن الجماعة الإرهابية التي تمتلك شيئًا من الرأفة والبراغماتية بخلاف داعش، مما قد يزيد من فرصها في التأثير على المستقبل السياسي في سوريا.

لا ريب في المقابل في أنّ تكلفة العملية قد كانت باهظة كذلك على الجبهة حيث قدمت الكثير من التنازلات أيضًا، كما أنّها لم تفلح في مسعاها لإطلاق سراح مئات آخرين من المتطرفين البارزين من سجن رومية في لبنان أو إرغام حزب الله على سحب قواته من الأراضي السورية. ولكنّ جبهة النصرة كانت تدرك أنّ مطلبها الأخير لم يكن واقعيًا وأن ما ستخسره سيكون معقولًا مقارنة بما ستحققه من العملية.

لقد انطوت هذه العملية رغم العدد الصغير نسبيًا من الأسرى المشمولين فيها على مستوى عال من التعقيد ولعل أظهر دليل على ذلك هو عدد الأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي أدت دورًا فيها، ولاسيما قطر التي كانت مفتاحًا أساسيًا لنجاح العملية. لقد كتبت في مقال سابق عن رغبة قطر في تعزيز دورها كوسيط مهمّ في المنطقة، وكانت مساهمتها الفاعلة في هذه الأزمة، والتي حرصت على بثها مباشرة على قناة الجزيرة كي يتسنى للعالم أجمع مشاهدتها، مثالًا آخر على حرص هذه الدولة الصغيرة على أن تكون وسيطًا ذا أثر يفوق حجمها بكثير، هذا بالرغم من تخوفات جيرانها من الأهداف الحقيقية لهذه الجهود. وبغض النظر عن هذه التخوفات الإقليمية من الدور القطري، إلا أنّ الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة تدرك أهمّية قدرات الدوحة على التواصل مع بعض محاور الشرّ في الشرق الأوسط. ولا بدّ حين تفشل القوّة في ضرب الإرهابيين أن يكون ثمة طرف قادر على التفاوض.

بات واضحا للجميع أن خطر الجماعات الإرهابية لن ينتهي إلا بإنهاء الصراع في سوريا وهذا وحده هو ما سيجنّب لبنان الوقوع في شرك عمليات تبادل جديدة

لقد أظهرت قطر في مراحل المفاوضات الطويلة مستوىً من البراغماتية تجدر الإشادة به. ففي حين يشتدّ الخلاف بين قطر وحزب الله في الشأن السوري -فحزب الله يدفع بكل قوّته من أجل حماية نظام تسعى قطر بكل شكل من الأشكال لإسقاطه- إلا إنّ هذا لم يمنع أمير قطر من التعاون مع نصرالله من أجل إطلاق سراح الأسرى اللبنانيين. وقد قامت عناصر الاستخبارات القطرية بتوجيهات مباشرة من الشيخ تميم بإقناع قادة جبهة النصرة بالإحجام عن رفع سقف مطالبهم في اللحظات الأخيرة من المفاوضات والموافقة على الصفقة.

ولم تقتصر هذه البراغماتية السياسية على قطر وحزب الله، فقد شاركت تركيا كذلك في تقديم الدعم اللوجستي لاستضافة محادثات بين المفاوض اللبناني وقادة جبهة النصرة بوساطة قطرية، ووافقت على استقبال بعض الأسرى المحررين من جبهة النصرة. كما وافقت روسيا والنظام السوري على أن تكون هنالك هدنة بين حزب الله والجبهة على الحدود الشمالية. أمّا إيران فقد باركت تلك الصفقة وإن بشكل ضمني وذلك عبر علي أكبر ولايتي، أحد كبار المستشارين المرشد العام للجمهورية، حين قام مؤخرًا بزيارة لبنان. ومع أنّ المملكة العربية السعودية لم تؤدّ أيّ دور مباشر في العملية، إلا أنّ موقفها المؤيد بشكل مفاجئ ومثير للجدل لتعيين سليمان فرنجية رئيسًا جديدًا للبنان، رغم صلته الوثيقة بالأسد ودعمه لحزب الله قد أسهم كذلك في التخفيف من حدة التوترات بين جميع الأطراف المعنية.

تتطلب عمليات تبادل الأسرى عادة تنازلات من كلا الطرفين، ولكن لا مفرّ من الإقرار بأنّ جبهة النصرة هي التي خرجت منتصرة في هذه الصفقة، والأمر المحزن هو أنّ لبنان ليس في موقف يتيح له تصحيح الأخطاء وتعويض الخسائر. إن الجيش اللبناني عاجز عن إخراج الجبهة من شمال البلاد، كما أنّ حزب الله بالرغم من بعض انتصاراته التي حققها ضدّ مقاتلي جبهة النصرة ما يزال مشغولًا في تأمين المناطق التي يسيطر عليها في ضواحي بيروت الجنوبية وفي القتال إلى جانب قوات الأسد داخل سوريا. قد بات واضحًا للجميع أن خطر الجماعات الإرهابية لن ينتهي إلا بإنهاء الصراع في سوريا وهذا وحده هو ما سيجنّب لبنان الوقوع في شرك عمليات تبادل جديدة للأسرى في المستقبل. صحيحٌ أنّ التعاون الذي حدث بين الأطراف العديدة والمتنازعة في هذا المشهد يعطي شيئًا من أمل، ولكنّ الحلّ لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا سيتطلب جرعًا أكبر من البراغماتية ومقدارًا أكبر من التنازلات من الأطراف كافّة.

اقرأ/ي أيضًا: 

إيران..قمع ما بعد الاتفاق النووي

خطط مكافحة الإرهاب في تونس..الجدل متواصل