01-أغسطس-2015

سعد الربضي/ الأردن

عرفنا صيحات الإعجاب بأغاني أم كلثوم، من خلال حفلاتها المسجّلة، حيث تحلّق آهاتُ وتعليقاتُ جمهور يردّدُ عفوياً بلغة بسيطة ومباشرة "الله عليكِ يا ست" وتنويعاتها المنمّطة، أو يطلق الصيحة الأشهر والأكثر انتشاراً "عظمة على عظمة يا ست" بإبدال حرف الظاء إلى زاي مفخّمة. إعجابٌ جماهيريٌّ كهذا تأسّس تقريباً على وعي فني وذائقةٍ مأسورةٍ بطابع التجربة الغنائية وخصوصيتها، فاتّسقت معها طرائق التعبير عن الإعجاب والمودّة، ومصاحباتها بما يكفي لإرساء ثقافة إعجابية، تتجاوز كونها مجرد متلازمات يتكرر ترديدها برعاية صوتية.

كثيرٌ من  الشتائم، فصحى وعامية، تُستخدَم تحبّباً 

في موروثنا الأدبيّ، تبرزُ صيغٌ للإعجاب والتعجّب في لبوس عبارات وجمل رفيعة من حيث التركيب اللغوي، ظاهرها لا يراد به حقيقتها، ولعلّ أشهر تلك الصيغ هي "ثكلتك أمك"، ومعناها الدّعاء على أحدهم بأن تفقده أمه، لكنه معنىً حقيقيّ لا يبتغيه الدّاعي بقدر ما يبتغي ظاهره، أي إبداء الدهشة والتعجّب أو التنبيه من الغفلة. لهذا، نكتشف بصدد الكلام على الشتائم والسّباب أنّ لدينا قاموساً غنيّاً نباهي به سائر الأمم ولغاتها الحية والمندثرة، فضلاً عن توافر مفردات "استبدالية" تُستدعى في سياق إهانات مكشوفة وشتائم نابية، بُغية تعويض الإشارة إلى أعضاء حساسة وإيحاءات جنسية. 

كثيرٌ من تلك الشتائم، فصحى وعامية، تُستخدَم تحبّباً للتدليل على حجم المودةّ والإعجاب بشكلٍ مبالغ فيه، أي أن الشتيمة نفسها تتساوق مع من نحبّ وضدّ من نكره في سياقات متباينة، تبدو في ظاهرها اعتباطية للوهلة الأولى.

في الطقس الشوارعيّ والشّعبيّ العربيّ، تمتدّ الشتائم على قوس من تدرّجات "العيب" و"الحرام"، ولعلّ استخدامها كوسيلة للتدليل على حجم المودّة والإعجاب يعدّ إلى حدٍّ ما مقبولاً وعادياً في المجتمعات التي لا يختلف الأمر كثيراً فيما بينها على مستوى النّوع، بقدر ما تتباين حدّة الشتيمة على مستوى الدّرجة ومدى انحرافها، في أغلب الأحيان، عن معيار "نظافة" الملفوظات، فإبداء الإعجاب يتّخذ صيغاً شتائمية صريحة، لا تعني حقيقتها بحدّ ذاتها وإنما ظاهر المعنى. هذا قريبٌ بعض الشيء من تعريف اللغة حسب دي سوسير على أنها نظام من الإشارات تتخذ قيمتها من المعنى الذي تسعى إلى توصيله.

رائع، مذهل، عظيم.. مفردات أصبحت عاجزة عن أداء وظيفتها

ولعـلَّ الشتيمة في حالة التدليل على حجم المودة والإعجاب تتناسب طردياً مع مستويين: مستوى الشّعور المستقرّ تجاه المشتوم، ومستوى العلاقة أو بالأحرى "العشم" معه. فمفردات متداولة من قبيل: رائع، بديع، مذهل، عظيم ومرادفاتها لم تعد كافية، وأضحت عاجزة عن أداء وظيفتها، فاقتصر الحكم عليها من خلال مُبتغاها.

مؤخراً، كانت لي تجربة مع موقع إلكترونيّ يوفّر الاستماع إلى الأغاني، وعديدٍ من التسجيلات الصوتية الأخرى، متيحاً خاصية إبداء الإعجاب عبر كتابة تعليق نصّيّ صغير عليها يظهر على المخطط الزمني خلال تشغيل الأغنية أو التسجيل الصوتي، وهو ما لفت انتباهي عطفاً على ما سبق التمهيد به، إذ لا تخلو تعليقات الإعجاب من استجابة "شتائمية" في ظاهرها، لكنها ليست عدائية، وما كان لها أن تتحقق بمعزل عن الأغنية، كأنها محاكاة بلغة معكوسة تنطوي على رغبة عفوية لامتداح الأغنية وعناصرها، في توصيف تجريدي مباشر وغير مؤسسي أو أكاديمي، فتستند تعابير الإعجاب بالأغاني مثلاً على الشتيمة الشوارعيّة، ولكن بطريقة تحببية ومثيرة للفضول لجهة مجازيّتها وكنائيّتها، بل مضحكة وساخرة في بعض الحالات، تجعل القارئ/ المستمع أو المستمع/ القارئ يتخيل الوضع الانفعاليّ الذي كان عليه صاحب التعليق أثناء انتباهه للأغنية.

في إحدى الأغنيات الجميلة، والمغايرة على صعيد الأداء والكلام واللحن، التي تؤديها مغنية شابة، تظهر الشتائم التالية كتعليقات منفصلة عن مدلولها الإهانيّ في سياق الموقف، ومسبوقة أحياناً بلفظ الجلالة "الله"، أو بآهات تتمدّد فيها حروف العلّة، وتتمطّى بحريّة، على امتداد سطر كامل: فاجرة، خرفانة، يا بنت المجنونة، كافرة، يخرب بيتك، جاحدة، شيطانة.

هذه أمثلة "مُغربلة" ومعتدلة الصياغة من تلك التعليقات، أغلبها مقتضب لا يتعدّى كلمة واحدة ولا يكاد يخدش الحياء العام، ناهيك عن أنّ بعض "الشتائم" يتخذ صيغته من أجواء الأغنية بكل حمولتها، وما تختزنه موسيقاها وكلماتها وطريقة أدائها من هرمونات تثويرية، في وقت تعكس فيه بالمجمل طبيعة الجهد الذي تبذله الصيغة التعبيرية للإبلاغ، وكأنها محاولة حثيثة لكسر طوق ما يهيمن على روح الإنسان، وعدم الامتثال لطرائق التعبير السائدة، ما يدفعه لصياغة واختبار لغة جارحة، حادة، نافرة ومتطرّفة، والاستفادة من طاقة الشتيمة إلى أقصاها الظاهري لا الحقيقيّ، في مسعى للتعبير عن شدّة الإعجاب والدّهشة والمودة.