27-يوليو-2015

عمل لـ(بانكسي) في مخيم الدهيشة للاجئين في بيت لحم المُحتلة

يُصار إلى استعمال مصطلح فن الشارع لوصف الكثير من القطاعات الفنية التي ترتبط بالشارع، أو تُؤدى على أرصفته، أو تُشَكّلُ على جدرانه، وليس من حيف في هذا الاستعمال. فما يمكن نعته بفن الشارع يراوح بين الفنون البصرية والتشكيلية، ولكن يمكن أن يكون مسرحاً أو موسيقى أيضاً، وربما رقص كذلك، لكن الأكثر شيوعاً والتصاقاً بالمفهوم يبقى الرسم على الجدران، أي الجرافيتي، على تنويعاته ومختلف أساليبه ومنطلقاته، فقد يكون مغرقاً في الذاتية والتعبيرية، بينما من الممكن أن يتوفر بشكل توثيقي أو شعاراتي مباشر، ولكن الأكثر شيوعاً، على الأقل عربياً، هو ما ينطلق من قضايا عامة، يحمل شعارات أو أفكار جمعية، يتناولها بكلتا المنهجين، التوثيقي والتعبيري.

ليس بالضرورة أن يكون ارتباط الفن بالسياسة والمطالب العامة ميكانيكاً

لا ينفصل فن الشارع عما يدور في الشارع نفسه، خاصة سياسة الشارع، أو بالأحرى، الممارسة السياسية في الشارع، من تظاهر ووقفات احتجاجية وانتفاض واستغلال للفضاءات العامة لصالح التعبيرعن قضية مطلبية أو سياسية، وفق منطق التعبير عن الرأي وإقحام المطالب في الحيز العام، خارج جنبات المؤسسة الرسمية وقنواتها.

وهنا يبرز التساؤل، أو الحاجة إلى التفريق بين المنهجية والغاية لهذا الشكل الفني، فهل هو غاية بحد ذاته؟ أم أنه مجرد وسيلة ممنهجة لالتقاط خطوة بعينها؟ قد تكون الإجابة لا هذا ولا ذاك، نظراً لأن ارتباط الفن بالسياسة والمطالب العامة ليس بالضرورة أن يكون ميكانيكاً، سواء من حيث الشكل أو المضمون. فيمكن أن تكون جدارية جرافيتية قائمة على إبراز بسمة طفل كفيلة بتقديم أكثر من معنى وملامسة أكثر من قضية في أكثر من حقبة مرت على نفس الناصية التي رسمت فيها، وفي الوقت عينه، قد لا تجدي بعض الجداريات في القيام بأي دور، غير التوثيقي، بمجرد انتهاء اللحظة التي تتحدث عنها.

لكن، هل بالقطع والضرورة أن يكون فن الشارع، أو الحقل الذي هيمن على المفهوم، أي الجرافيتي، سياسياً أو عاماً بمعنى ما؟ أليس من الممكن أن يكون مجرد محاولة تجميلية، أو تدخل في الهيكلية البصرية للمكان على نحو يضيف من التجويد أو التجميل ما يتكفل بتضميد جراح الجدران المتعبة؟ وفي نفس الوقت، ألا يعتبر هذا تدخلاً في هيكلية الفضاء العام التي من المفترض أن أجهزة الدولة، تحتكر تشكيلها وصياغتها، سواء في الشق الأولي المرتبط بالبنية التحتية، أو فيما يتعلق بالمشهدية البصرية للمكان. أليس التدخل بإقحام صورة ما، رسم أو رمز أو شعار، على حائط يطل على شارع، أو يعتبر جزء منه، إعادة تعريف للمكان؟ أو على الأقل إعادة انتاج صورة المكان وفق موقف ومن زاوية نظر مغايرة لتلك التي كان عليها؟

لذلك، يمكن القول إن حضور التعبير الفني، الجرافيتي خاصة، في الشارع، يلامس دوراً أساسياً في الانتقال بصوت الرفض من الدوائر المهمشة القصية، أو المقصاة، إلى تصدر عمارة المدينة، ليحتل مكاناً لا يمكن تجاهله، فارضاً هيمنة مضادة لتلك التي تعتقد بحقها القسري في تشكيل الفضاء المديني العام، وممثلاً لحالة بصرية من المقاومة اليومية، التي تتحدث بمقولة الاحتجاج أو توثق لها.

 يفضح فن الشارع فشل نظام الهيمنة الذي تتكئ عليه الدولة في تعميم قيمها على الفضاء العام

عندما يحضر فن الشارع، بشكله المقاوم، أو الناقد لما هو قائم على صعيد علاقات المجتمع ببعضه بعضاً، أو علاقة المجتمع بالدولة، فإنه يفضح فشل نظام الهيمنة الذي تتكئ عليه الدولة وأجهزتها في التعميم الحصري لقيمها في الفضاء العام، ويعكس محدودية قدرة الدولة على القسر الكلي، وممارسة الضبط المكاني للفضاء العام والتحكم بما يدور فيه على نحو مطلق. فمن المطامح المركزية لجهاز الدولة، فرض الحضور المهيمن على كل ما هو عام للتعبير عن القيم التي تغذي فكرة الهيمنة بحد ذاتها، سواء من باب الإدمان البيروقراطي، أو من باب التوظيف السياسي الثقافي. حتى في الحالات التي لا يمتد انتشار فن الشارع فيها ليكون طاغياً أو متصدراً للمشهد العام، فإن وجوده، وإن كان محدوداً، يشي بوجود ما هو مغاير للسائد، ويؤسس لنفي مقولة الصوت الواحد القادم من أبواق الدولة. فهو فاعل يصوغ البنية التي تتعارض مع مواقف السلطة، ربما بشكل مباشر يعكس التحولات في معايير وموازين القوة، أو غير مباشر عبر حضوره ومزاحمته للسردية الرسمية، بالتالي لا يمكن تجاوز دور فن الشارع، أو عدم الاعتراف بفعاليته في إنتاح سرديات وهويات وتضامنيات جديدة، وكسر احتكار الإنتاج الفني، فهو لا يبتغي التصريح والرضا من المؤسسة الرسمية، كما أن المساحة التي يناور فيها خاضعة لسلطة الرمز الأقوى، أو الأقدر على الحضور في تجارب الناس ومحاكاة وعيهم.

كذلك  فإن مقارنة الطاقة الهائلة التي تنفقها الدولة على دعم الفن والدعاية الفنية لمشروعها السياسي وقيمها، في مقابل الطاقة الطوعية والمتواضعة مادياً التي يستند إليها فن الشارع المقاوم/ الناقد، تعكس قدرة الأخير على مقارعة الدولة وإنجاز مكتسبات رمزية وعملية في صراعه مع منتج ثقافة المؤسسة، بالارتكاز على عوامل غير تلك التي للدولة.

من المنزلقات التي لا تغيب عن تناول فنون الرفض والمقاومة القائمة في الشارع، أن يمسي الانتباه مُنصبَّاً على الاحتجاج نفسه، بما هو حضور للناس في الشارع وممارسة ما يحق لهم من تعبير عن اصطفافهم تجاه قضية عامة ما، أو من النظام السياسي الاقتصادي والمنظومة الثقافية التي تعبر عنه، ونسيان الفن، أو تغييب الحديث عن الظواهر الفنية المرافقة للحراك السياسي.

كما أن العكس من ذلك ممكن ووارد، فقد يحوز الفن اهتماماً وإشهاراً أكثر من القضية التي يعبر عنها، أو يوظف في الترويج لوجهة نظر ما بشأنها. وهنا يكمن اختبار براعة المنتج الفني في عكس مقولته وإيصالها، وقدرته على التأثير في مسارها، أو على الأقل في رسم صورة بشأنها، والتعبير عن موقعه منها. فالفن لا يمثل السلطة فقط، أو لا يفترض أن يمثلها فقط، حتى لو كانت مؤسساتها الأقدر معنوياً ومادياً على تصدير منتجها وترسيخه، بل يشارك بفعالية في الصراع معها، وهذا ما قالته جداريات كثيرة غطت الجدران المحيطة لميادين التظاهر وساحات نداء "ارحل" أو "الشعب يريد إسقاط النظام" في أكثر من قُطر عربي.