21-يوليو-2019

من الجيد أحيانا أن نتدرب على ألا نقوم بشيء (تويتر)

في عالمٍ يتحرّك باستمرار، فإن فعل السكون نفسه بات رجوعًا للوراء، فلن يستطيع المرء أن يجد مكانًا له، هذا إن لم تدسه الأقدام المتسارعة... أو هكذا أُمليَ علينا، على عجالةٍ أيضًا. ولكن ربما في زمن السرعة، يصبح التمهل سلعةٍ نادرةٍ لا بد من الحفاظ عليها، فالنظر إلى الأمام باستمرار، قد يكون عبئًا يُعيقنا في النهاية. يتعرّض هذا المقال من Psychology Today الذي ننقله لكم بتصرف إلى الجمال الكامن في التحديق في الفراغ، في فن السكون.


نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالةً قبل فترةٍ تدعو قراءها إلى استشعار لذة فعل الكثير من... اللاشيء، بدلًا من التحرك والنشاط باستمرار. المقالة قامت على مبدأٍ في اللغة الهولندية يُعرف niksen أو فنّ السكون. ويقضي مبدأ Niksen بأن على الإنسان قهر ثقافة الانشغال بتقريره، قرارًا واعيًا مدروسًا، أن يتسكّع فقط، فمثلًا يستطيع أن يحدّق من النافذة أو يجلس بلا حراك أو يُمضي ساعاتٍ طوالٍ وهو يسبح في أحلام اليقظة. بل ذهبت المقالة إلى ما هو أبعد من هذا، مقترحةً على القراء تنظيم حفلات ملل يأتيها الناس للتنعّم بفِعِلِ فِعِلِ اللاشيء مع الآخرين.

لقد أصبحنا مُدرّبين على النظر وترقب ما هو آتٍ بدلًا من الاندهاش والتجمّل بما نراه من حولنا. لقد تعلّمنا الكدح، ولكن نسينا معنى التوقّف للحظة والسماح لأشعة الشمس بدخول أرواحنا

ناقشت في كتابي Boost: The Science of Recharging Yourself in an Age of Unrelenting Demands (شحنة: علم إعادة شحن الذات في عصر المطالب التي لا تتوقّف) فكرةً كهذه. فقد قاد عالمنا اليوم، برتمه السريع والحضور الطاغي للآلات الإلكترونية فيه وهوسه بالإعلام، الكثيرين إلى الاعتقاد بأن علينا أن نكون دائمًا منشغلين، نتحرّك، ننجز، ونرفع أبصارنا إلى الدرجة القادمة على هذا السلم الذي يبدو أن لا نهاية له. فقد قلّصنا تركيزنا ليقتصر على النجاح والاستهلاك والصناعة، ناسين ضرورة التأني والتمعّن والاستمتاع بمتع الحياة البسيطة.

اقرأ/ي أيضًا: الأطباء يحذّرون: التوتر الشديد قد يؤدي إلى فقدان البصر

لقد أصبحنا مُدرّبين على النظر وترقب ما هو آتٍ بدلًا من الاندهاش والتجمّل بما نراه من حولنا. لقد تعلّمنا الكدح، ولكن نسينا معنى التوقّف للحظة والسماح لأشعة الشمس بدخول أرواحنا. لقد وعينا كيف نستطيع أن ندفع بأنفسنا إلى الأمام بكل ما أوتينا، ولكننا غفلنا عن أهمية إعادة شحن أنفسنا، فأصبح شعور الإنهاك والفراغ لا يفارقنا.

لا بد علينا، إذا ما أردنا أن نعالج هذه المشكلة، أن نتلمّس من جديد اللحظات المليئة المنزوية بعيدًا عن الالتزامات وأن نبحث عن شيءٍ من المتع التي نصون بها عافيتنا. يجب علينا ألا ننسَ أن نسمح لأنفسنا بالتنعم ببعض الهدوء الذي يجدّد أرواحنا ويملؤها. نحتاج إلى إعادة التوازن إلى حياتنا التي فقدت هذا المعنى. ففي عالمٍ مهووسٍ بالصناعة والإنتاجية، يجب أن نستردّ قيمة "أنني... أحيانًا.. لا... أريد... فعل... أي... شيء"، فما خلا سكونٌ من جمال.

رُزِقَت أنا بابنٍ وابنة. يبلغ عمر ابنتي تسع سنوات، وابني خمس سنوات. في الليل، ينال التعب من ابني الصغير عادةً قبل أخته بثلاثين دقيقة تستغلها لتسترخي بهدوء، فربما تشاهد التلفاز، أو تلعب على التابليت، أو تلعب معي أو مع أمها. كانت زوجتي، في إحدى الليالي، خارج المنزل، وكنت أنا وابنتي جالسين نتدلّى على الأريكة بكل كسل.

"لقد مللت، فلنفعل شيئًا معًا". رددت عليها قائلًا إن شعور الملل هو أمرٌ طيبٌ أحيانًا، وأن أفضل ما يمكننا القيام به هو الاستمرار بالجلوس على الأريكة دون فعل أي شيء.

طبعًا لم ينل هذا الاقتراح إعجابها، "لاااااا. فلنفعل شيئًا ممتعًا أكثر". قرّرت أن أثبت على موقفي، مع ابتسامةٍ صفراء بعض الشيء، "لا. لماذا لا نجلس فقط دون فعل أي شيء".

استمرّ هذا الجدل الجميل، وبدأنا نتمازح حول ما يمكن لنا أن نفعله. بدأت ابنتي بدفع رجلي، محاولةً نفض الغبار عني، بالمفهوم المجازي والحرفي، ولكنني كنت أعيدها إلى ما كانت عليه في منافسة شدّ حبلٍ ودية.

اقرأ/ي أيضًا: وحش "الكلام الفارغ".. أو لماذا صرت أخاف من الكتابة

ضحكنا معًا، وكان عليّ أن أخبرها أن تخفض صوتها كي لا توقظ أخاها. تحدّثنا، وتضامّنا، وفكّرنا بأجوبةٍ للأسئلة التي تشغل ذهن فتاةٍ عمرها تسع سنوات. وبقينا على هذا الحال حتى حان موعد نومها.

ربما في زمن السرعة، يصبح التمهل سلعةٍ نادرةٍ لا بد من الحفاظ عليها، فالنظر إلى الأمام باستمرار، قد يكون عبئًا يُعيقنا في النهاية

بعد يومين، كان عليّ مرةً أخرى أن أقضي جزءً بسيطًا من أمسيتي مع ابنتي الصغيرة. ذهبنا إلى غرفة الجلوس لكي نناقش، مرةً أخرى، ماذا نستطيع أن نفعل في الـ30 دقيقةً القادمة. أدارت ابنتي عينيها، المليئة بالمكر، إليّ وقالت: "بابا، ما رأيك أن لا نفعل شيئًا مرةً أخرى". وكان جوابي: "نعم يا حبيبتي، هذا ما أريد فعله".

 

اقرأ/ي أيضًا:

علاج الملل والفراغ بأفكار بسيطة

الألوان وتأثيرها على النفس