31-مارس-2019

كمال الرياحي (فيسبوك)

"كلّ رواية هي أحجية من هذا العالم" هكذا عرّف غابرييل غارسيا ماركيز هذا الجنس الأدبيّ الذي اكتسح العالم منذ ظهوره، ولأنّ نفس العالم مترع بعدد لا نهائيّ من الحكايات فإنّ الرواية تنهل بدورها من معين لا ينضب.

لا يستطيع الإنسان الحياة دون تخييل وصناعة حكايات، إنّها بقدر حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم

فنّ الرواية، كتبٌ عديدة حملت هذا العنوان، خطّتها قامات عدّة من بينها ميلان كونديرا وهنري جيمس وكولن ولسن، كان آخرهم الروائي التونسي كمال الرياحي، الصادر أخيرًا عن "دار سوتيميديا للنشر" بتونس. كتابٌ ألّفه مهووس بقراءة الرواية  وكتابتها، له عديد المقالات والكتب النقديّة في الصحافة هذا إضافة إلى ثلاثة روايات "المشرط" و"الغوريلا" و"عشيقات النذل"، وتحصّل أوائل العام 2018 على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة عن يوميّات بعنوان "واحد صفر للقتيل".

نحتاج التخييل مثل حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم

لا يستطيع الإنسان الحياة دون تخييل وصناعة حكايات، إنّها بقدر حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم، كما يؤكّد بول أوستر. يحتاج العالم العربيّ في ظلّ أزماته المتكرّرة وتفجّره الحالي أكثر للروائيّين لأنّهم يمنحون الصوت الذي يحتاجه اللاجئون والمخطوفون والمغتصبون والمخبولون وأفراد الأقليات المقموعة والفقراء والخدم والثائرون، وكلّ الخارجين عن القانون والأعراف الباحثين الصراخ خارج مخافر التحقيق أو حجرات الطبّ النفسيّ المغلقة. لا يوجد بديل غير الوعي الذي تقدّمه الرواية وتوزيعه بالعدل على الناس، وتعميق حاجتنا إلى التثاقف الداخليّ-الداخليّ بين أفراد مجتمعاتنا والتعريف بقضايا محليّة قطريّة تفنّن أصحاب السلطة والنفوذ في تغييبها وطمس حقائقها.

اقرأ/ي أيضًا: "واحد - صفر للقتيل".. كمال الرياحي طاردًا الأرواح بالكتابة

تعرّفنا بفضل روايات سعود السنعوسي على ظاهرة "البدون" وصراع الطبقات المسكوت عنه في الكويت، وبفضلها كذلك على معاناة المهمّشين في دارفور والقمع في السودان في أعمال عبد العزيز بركة ساكن، وخبرنا تنوّع العنف في الشرق الأوسط والمغرب العربي بين "فرنكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي و"الموت عمل شاق" لخالد خليفة وروايات علي بدر وواسيني الأعرج وياسمينة خضرا وآخرين.

الرواية جنس أدبيّ لا دين له ولا ملّة

يبقى التهديد الأساسيّ للرواية العربيّة والعالميّة روايات البيست سيلر، التي تبقى الأضعف فنيّا وتدار من قبل ماكينات أيديولوجيّة ودينيّة وسياسيّة نجهل مصدرها في أغلب الأحيان. وظّفتْ جهات هذا الجنس الأدبيّ لتجنيد الشباب وتوجيه رؤيتهم للعالم نحو قضايا هامشيّة وسطحيّة، وإفساد تذوّق شريحة مهمّة من الشباب للأدب متّهمين روائيّين متميّزين بالإساءة للإسلام أو الأخلاق الحميدة.

يقول كمال الرياحي في كتابه إنّ الرواية جنس أدبيّ لا دين له ولا ملّة، نجحت في  تفعيل مفهوم العولمة منذ قرون بفضل قدرتها على الاستيعاب والصمود أمام كلّ محاولات الاختراق التي تعرّضت لها، وخيّبت ظنّ رولان بارت في إعلانه عن موت المؤلّف والذي مات -هو نفسه- في حادث طريق ونجهل إن داسه مؤلّف أم نصّ.

الكتابة فعل دمويّ تخرج من دماء الكاتب من ناحية، وأخرى قد تسفك دمه عبر التحريم أو التجريم

وظّف الرياحي وعيه بالأجناس الروائيّة وثقافته المتنوّعة لمنحنا رؤية رشيقة حول الكتابة، فالرواية مثل الملاكمة تحتاج إلى تغذية دقيقة وتحكّم في الوزن وعلى كلّ روائيّ أن يضبط حركاته ولكماته حتّى يربح النقاط ويسقط خصمه. تؤكّد هذه الرؤية نظريّة الاتّصال بين جسد الكاتب وعقله، ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا ترك بضعة لحمه في الدواة كلّما غمس فيها القلم كما يقول تولستوي، ينهل الكتّاب الحقيقيّون من حياتهم  وسيرتهم الحقيقيّة وهذا ما ينحت خصوصيّة أعمالهم وتفرّدها.

الكتابة فعل دمويٌّ وصرخة لما بعد الموت

يضمّ الكتاب مقالات نقديّة عديدة مختارة حول روايات وسير بعض الروائيّين العالميّين وبيوغرافيا روائيّين مميّزين. يجزم كمال الرياحي في كتابه أنّ الأعمال الخالدة نابعة من سيرة كتّابها الحقيقيّ. فضح الكاتب الأمريكيّ بول أوستر عائلته وقتل جدّته لجدّه وكرهه بعض من أفراد أسرته بسبب هذا الفضح لتاريخها في كتابيه "اختراع العزلة" و"حكاية شتاء". الكتابة فعل دمويّ تخرج من دماء الكاتب من ناحية، وأخرى قد تسفك دمه عبر التحريم أو التجريم.

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي.. الحفر في النذالة

تمثّل الرواية أداة فضح وتعرية للواقع المزري وللهامش وعلاقته مع المركز. يتمظهر ذلك في رواية "أدب رخيص" لتشارلز بوكوفسكي. هتك فيها بوكوفسكي لوبيات الصناعة السينمائيّة الهوليوديّة ومحنة الكتابة تحت الطلب وكيف أنّها تهدّد حريّة الكاتب، ومستلهمة من تجربة شخصيّة طلب منه فيها كتابة سيناريو لأحد الأفلام. رواية تعتبر صرخة في وجه تهميش الكاتب لصالح الطرف الأضعف والأغبى وهو الممثّل.

تبقى صرخات الروائيّ حتّى بعد موته، وأهمّ دليل على ذلك صاحب الرواية الوحيدة جون كينيدي توول. صارت "تحالف الأغبياء" من كلاسيكيّات الأدب الأمريكيّ رغم أنّ الناشرين تحالفوا ضدّه ورفضوا نشر مخطوطه ممّا أدّى إلى انتحاره سنة 1969. واصلت أمّه بعد موته حلمه في نشر الرواية  لتتحصّل على جائزة البوليتزر الشهيرة سنة 1981. تعتبر الرواية صرخة في وجه الحداثة التي يقدّمها الغرب، في سخرية سوداء ذات طابع سرياليّ لشخصيّة صارت فيما بعد أيقونة للمجتمع الأمريكيّ ورمزا لثقافة الاستهلاك والعولمة واستلهم منها رسّامون أعمالهم، اعتبرها كمال الرياحي المعادل الأمريكيّ لدون كيشوت Made in USA.

ضمّن كمال الرياحي في كتابه قراءتين تعالجان الهامش الأفريقيّ: "والاندي" للكامرونيّة أمادو أمل، و"إضراب الشحّاذين" للسينغاليّة أميناتا ساو فال، وعرّى ارتزاق الطاهر بن جلّون من الثورة التونسيّة بروايته التافهة والمترعة بالكليشيهات "بالنار" التي روت سيرة مشوّهة لمحمّد البوعزيزي.

هرولة لذيذة نحو الانتحار!

يدعونا كمال الرياحي إلى الهرولة معه في ثنايا كتّاب أثّروا فيه ومثّلوا تجارب فذّة وفريدة في الرواية العالميّة، نتسلّل بين طيّات حرفه إلى عوالم هاروكي موراكامي الذي يركض وراء الحياة بكلّ جوارحه على خلاف كتّاب يابانيّين نزعوا إلى الانتحار مذكّرا إيّانا بردّ غابرييل غارسيا ماركيز لمّا وجهت له دعوة لحضور لقاء مع كتّاب من اليابان "أنا آت بكلّ سرور، شرط ألا ينتحروا!".

يدعونا كمال الرياحي إلى الهرولة معه في ثنايا كتّاب أثّروا فيه ومثّلوا تجارب فذّة وفريدة في الرواية العالميّة

تمّ ذكر سيرة أخرى انتهت بانتحار الكاتب في النهاية. يعتبر كمال أنّ قتل ديفيد فوستر والاس لنفسه بمثابة انتحار لما بعد الحداثة، إذ يقول: "إنّ ما بعد الحداثة هي أن ننتحر بقوّة. أن ننتحر بقوّة ميشيما، وقوّة ديفيد فوستر والاس باندفاع البورش، سيّارة جيمس دين".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "عن إخواننا الجرحى".. بين أسنان الماكينة الاستعمارية

تواصل اندفاع الرياحي إلى الرواية العربيّة، وانتقل بين تجارب روائيّة من المغرب العربي إلى الخليج. انتقل من محمود عبد الغني صاحب "معجم طنجة" إلى مقبول علوي صاحب "زرياب" معرّجًا على علي مصباح صاحب "حارة السفهاء"، ورشيد الضعيف ورائعته "ألواح"، وأعمال أخرى... سلّط الضوء على أعمال راقية أدبيّا وفنيّا لبعض الكتّاب الذين أهملتهم الجوائز العربيّة، وفي ذهنه عبارة الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو "هدفي عدم التخلّي عن الناس الذين جاؤوا إلى العالم في الظلام".

 

اقرأ/ي أيضًا:

روبرت زيتالر.. بردٌ ينخر كل شيء