06-ديسمبر-2020

الكاتب النمساوي فلوريان غانتنر

هذا النص للكاتب النمساوي فلوريان غانتنر على إثر زيارة قديمة لمدينة دمشق. اعتمتد هذه الترجمة على النص المنشور في المجموعة القصصية المعنونة بـ"مغامرات عمّان"، والصادرة باللغة الألمانية عام 2011 عن دار تاوريسكا للنشر.

فلوريان غانتنر كاتب نمساوي، مواليد 1980، يعيش في فيينا، حصل على جائزة ثيودور كورنر 2014، وجائزة فلورينا الأدبية 2018.


يبدو أنّ السفر إلى سوريا "الدولة المارقة" ليس بالأمر السهل. انطلقت حافلتنا السريعة ذات التذكرة الرخيصة من عمّان الساعة السابعة صباحًا. كنت وصديقي "ف" الأجنبيان الوحيدان بين ركّاب الحافلة. لم تصل أسعار التذاكر على ما يبدو إلى مسامع محرري مجلة الرحلات الشهيرة (لونلي بلانيت).

كنا أيضًا الوحيدَين اللذين احتاجا تأشيرة دخول على الحدود السورية، أو لربما الوحيدَين اللذين لم يتدبرا ذلك الموضوع قبل ركوب الحافلة، حيث تحتاج تأشيرة الدخول إلى سوريا سبعة طوابع، يُلصقها الشخص المخوّل بلطف على صفحة جواز السفر ويزينها بأحد الأختام، وتُكلّفُ التأشيرة الكثير من الانتظار والدولارات الأمريكية.

استعجل السائق الرحيل، بعد ساعة من الانتظار وجدال عقيم حول قيمة العملة السورية المرتجعة مما دفعناه، فركضنا للحاق بالحافلة التي قررت الانطلاق دوننا.

بالكاد وطأنا الباص المنطلق متخففين من ثقل العملة الأوروبية (لعدم توفر الدولارات لدفع الرسوم) وسط ذهول المسافرين.

وصلنا العاصمة السورية في بداية الظهيرة، وبعد أن وجدنا فندقا رخيصًا، رحنا نتمشى في مركز المدينة، كانت الشوارع مفعمة بالحيوية، ودغدت أنفينا روائح مختلفة. دلَفنا إلى إحدى الحارات الضيقة في المدينة القديمة فانتهينا في متاهة، ثم وصلنا بصعوبة إلى أحد الشوارع المزدحمة، وتناولنا بعض الأطعمة في السوق، وروحنا عن أنفسنا ببعض المشروبات وراقبنا سيل البشر والمواصلات في هذه الحاضرة المزدهرة.

كانت روائح العاصمة السورية خلّابة، حيث تتناوب الروائح على أنفك خلال ثوان بين الهال والكزبرة والكمون، ثم تختلط ببعضها البعض لتكوّن عطرًا فواحًا يلامسُ وجهك برفق.

لا يتمتع الدين في هذه المدينة بحضور طاغ بكل تأكيد، ولكن صوت الأذان يبقى حاضرًا في الخلفية، بينما تشاهد في الوقت نفسه ملابس داخلية نسائية معروضة في واجهات المحلات، كما كان نصادف في الحي الذي نسكنه عندما يحل المساء أناسًا يشربون الكحول علنًا.

لم أضطر مع صديقي "ف" لخوض الكثير من النقاشات للاتفاق على نشاطاتنا التالية، وانتهى بنا الأمر مجددًا على مقعد خشبي وبيننا زجاجتين من البيرة، كنا في أعلى زقاق فندق "الربيع" الذي نسكن فيه. تمكنّا من هذا المكان من رؤية المشاهد الهادئة، حيث انتشرت محلات الخردة، ومحلات بائعي عصير الفواكه والمطاعم العربية بنادليها الدؤوبين.

اعتملتْ بداخلي الكثير من الأحاسيس في تلك اللحظات: فبعد أيام طويلة من الامتناع عن الكحول، أصبح الآن يجري مجرى الدم في جسدي، وأحسست حقًا بالمشروب الروحي يسري إلى قدميّ، وشعرتُ بدغدغة وصلت رؤوس أصابعي، وبيدٍ تمسّدُ ثنايا دماغي، وأدركت على نحو قاطع أن هذه "الخمور" قادرة على تحرير الأميرات من سباتهن ذي المائة عام.

وجدنا أنفسنا على الفور محاطين بأناس آخرين، كان من بينهم زوجان ألمانيان، راحا يصفان لنا تجربة الغوص في مصر ويحدثاننا عن مغامرات أسفارهم. ضرب بعض الشباب الدمشقيين أقداحهم بأقداحنا ولم يهتموا أصلًا بمعرفة من أي بلد قدمنا، ولم يسألوننا أسماءنا حتى. لم يهتموا أبدًا سوى بشرب المزيد من البيرة معنا.

انبثقتْ فكرة تأليف "دليل الثمالة" لتلك البلدان المدعوّة بـ "الدول المارقة": فمن يعرف بالضبط أين تتمتع بسهرة مشروبات روحية في الباكستان؟ ماذا تُدعى الخمارات الجيّدة أو السرّية في طهران؟

رحنا نشرب زجاجة بيرة أخرى، وفكرتُ مع "ف" بتلك المجموعة من الشباب التي تشرب بهدف الثمالة، أولئك "الثملين الشرهين" الذين يبحثون عن الإثارة، وبينما كنا نرتشف مشروباتنا راح أحد الشباب المحليين يشرح لنا كيف يتم تنظيم سهرات الليل في المدينة، وماذا تشرب وفي أي قسم من المدينة، لم أدوّن أي شيء في البداية أنّما حاولتُ أن أحفظ أهم الأسماء.

وجدتُ نفسي جالسًا على كرسي التواليت من جديد، بعد أن نجحت بالوصول إلى فندق الربيع، وتمكنّ أحدنا بشكل من الأشكال من فتح باب الغرفة. كان طعم الاستفراغ الحامض ما يزال في فمي، والقسم العلوي من جسدي يرتجف، انحنيت إلى الأمام وأسندتُ كوعي على فخذي، وكانت السوائل وحدها التي تخرج من جسدي (من فوق ومن تحت) وتكرر هذا أربع أو خمس مرات للأسف.

استمر الوضع على هذا المنوال وتوضح لي بأن حالتي ليست مرتبطة بفائض المتعة من الكحول، فحاولت أن أسترجع ما فعلته، ما الذي أكلته؟ وعرفت أن هناك عدة أسباب لالتهاب جهازي الهضمي، ويمكنني الاعتراف الآن كم أنا مستهتر بصحتي:

أ ـ حذرتني أمي دائمًا من تناول اللحم المفروم البائت. لكن لا، أشرتُ إلى الشاب في السوق أن يسخن لي قطعة من تلك العجينة المحشوة المترهلة.

ب ـ شاهدت مرة على التلفاز الألماني برنامجًا حول حماية المستهلك، ينصح بعدم تناول الطعام في المطاعم التي لا يمكنك مشاهدة ما يجري في مطابخها، لكي تقيّم مستوى النظافة فيها. لكن لا، رحتُ مع "ف" إلى ذلك المطعم، وقلتُ للنادل أن يقدم لنا "لهمة"، ثم راقبته يختفي هناك.

ت ـ قرأت في الأدب العربي عن الحسد. لكن لا، غضضت طرفي عن كل ذلك، وأومأت برأسي بالصحة والعافية في المطعم للرجل بنظرته الحاسدة وجزمته الجلدية وشاربه العملاق الذي جلس بجانبي على الطاولة المجاورة.

استمر الحال في اليوم التالي هكذا، زيارة إلى الحمام كل ساعة وبشكل منتظم. انسكب كل شيء من داخلي، وتجاوزت مرحلة الانقباضات المعوية، وبدا من الأفضل أن أبقى جالسًا على كرسي التواليت.

ذهب "ف" لاستكشاف المدينة، أراد في البدء أن يؤنسن ويسليني إلا أنني أقنعته بالعدول عن ذلك، كما أنني لم أرغب في الحقيقة بأن يستمع لأنيني وتأوهاتي.

جلستُ متعرقًا على كرسي التواليت أراقب منحنيًا إلى الأمام أظافر قدمي، أو أستلقي بعدها في السرير مستمعًا بدقة إلى أمعائي محاولًا تقدير وقت التفريغ القادم.

في ليلةِ جولة التعذيب الثانية كنت أدلف كل ساعة إلى الحمام، لأتمتع بحجرة الآلام الخاصة.

حاولت في الأيام التالية مغادرة غرفتي، لأشاهد على الأقل شيئًا من دمشق. مشيت بتثاقل مع "ف" الذي توجب عليه تخفيف سرعته حتى وصلنا إلى المتحف الوطني القريب، انقبضت أضلعي فانطلقتُ مستهدفًا حمّامات المتحف الوطني في دمشق.

تجولنا بعدها ببطء فوصلنا إلى سوق الحميدية الكبير، أحد أسواق دمشق المغطى بسقف معدني، حيث تجد أحد الحمّامات فورًا عند مدخل السوق من اليسار، والذي لا يرتقي في مستوى نظافته إلى مرافق المتحف الوطني، ولكنه يفي بالغرض على أية حال بالنسبة لمستوى النظافة في سوريا.

بدت لي العاصمة السورية مدينة صاخبة وفوضوية، كما بدت تلك الأشياء التي استفزت أعصابي خلال إقامتي في عمان، والتي دامت لأربعة أشهر، أكثر حصورًا وكثافة هنا: السيارات أكثر فوضوية، الحرارة أشد ارتفاعًا والحمّامات أكثر اتساخًا.

بدت الروائح التي وجدتها ساحرة في البداية مؤذية الآن: فخلال ثانية واحدة، تناوبت عليّ روائح القهوة والبول والغائط، وتجمعت في موجة من القرف التي أرعدت فوق رأسي.

عقدتُ قراري حازمًا: أريد العودة إلى عمّان، إلى شقتي، إلى كرسي حمّامي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلى "حيث لا دمشق هنا"

دمشق التي لي

دلالات: