فلسطين ومتلازمة "الشوك والقرنفل".. كلّما هُزمَت انتصرت
18 أكتوبر 2025
إنها متلازمة "الشوك والقرنف" التي تختصر الحكاية كلها. قبل السابع من أكتوبر بزمن بعيد، وستبقى بعده لزمن أطول.
ففي معادلة فلسطين لا تصحّ معادلة النصر والهزيمة؛ فالشعب الذي سُلب منه كل شيء لم يعد يملك ما يخسره، وبقيت له الفكرة لينتصر بها ولو بعد حين.
اكتسبت عملية "طوفان الأقصى" أهمية خاصة لما أحدثته من تحوّلات في الشرق الأوسط، بلغت حدّ تغيير خرائط وحدود وأنظمة. كانت اللحظة مغرية للإسرائيلي، وفرصة قد لا تتكرر في مئة عام، فتغوّل على المنطقة برمّتها، محاولًا الإيحاء بأنه أصبح الآمر الناهي وسيد الإقليم.
للوهلة الأولى يبدو الأمر كذلك: إنه العصر الإسرائيلي بامتياز، عصر التفوق في التكنولوجيا العسكرية، وامتلاك الأجواء والفضاءات السيبرانية، وتسخير الذكاء الاصطناعي ومواقع التواصل الاجتماعي في خدمة آلة الحرب. ولكن ماذا بعد؟
غزة المتعَبة
خرجت غزة من حرب السنتين منهكة إلى حدّ السقوط؛ دمارٌ هائل، وأحياءٌ ومناطق أُزيلت عن سطح الأرض بالكامل. ستون ألف شهيد، ولا مدارس، ولا مستشفيات، ولا بنى تحتية.
معركة فلسطين الآن هي مع الذاكرة، للحفاظ على القضية كحقٍّ مكرّس، وللحفاظ على فلسطين كفكرة لا تموت
حاول الإسرائيلي، على مدى عامين، أن يزيل معالم غزة بشرًا وأرضًا وحجرًا. أنذر السكان وهجّرهم، ولاحقهم من مخيم لجوء إلى آخر، باحثًا لهم عن قطعة أرض في مكانٍ ما من هذا العالم، أو فارضًا عليهم واقع اللجوء من جديد، مستعيدًا تجربة النكبة الأولى — وربما كان على وشك أن يفعلها.
انتصر الإسرائيلي عسكريًا، وفرض شروط اتفاق وقف إطلاق النار، لكنه لم ينتصر على الأرض والناس.
انتصر بالدبابة والمسيّرات والطائرات، لكنه هُزم أمام نبض الأوطان، ولو من تحت الرماد والركام.
انتصر بالحصار والتجويع، لكنه هُزم أمام أمهاتٍ صمدن بانتظار أولادهن الأسرى، واستقبلنهم بحبّات السكر والشوكولا، كي يبقى للدم مجراه في العروق.
انتصار الفكرة
مرّةً جديدة تنتصر الفكرة على المقصلة. المشهد نفسه يتكرّر منذ نكبة عام 1948، لأن الفكر عصيّ على الهزيمة والذوبان والموت. ويصحّ في غزة المدمّرة قول الشاعر:
ماذا؟ أَتسكُتُ والأذى يتكلَّمُ
فانطِقْ، نذْرتُك للحقيقةِ يا فمُ
الشرُّ يعجزُ أنْ يحطِّمَ فكرةً
فالفكرُ مثلُ اللهِ لا يتحطَّمُ.
انتصرت غزة بمجرّد بقائها وصمودها، وبالناس الذين زحفوا أفواجًا في طريق العودة بعد ساعات على انتهاء الحرب، وبأغاني الصحافيين والناشطين: "جنّة جنّة جنّة... تسلم يا وطنّا"، وبدموع طفلة لحظةَ سماع النبأ.
قد يقول البعض: "أيّ انتصار هذا فوق كلّ الأسى والموت والدمار؟" — صحيح، لقد دُفع الثمن غاليًا، لكن المطلوب كان أكثر بكثير؛ كان يُراد لهذه القطعة من العالم أن تزول، ولهذه القضية أن تختفي. لكنها بقيت، رغم جنون الحرب والمؤامرات والمشاريع والصمت العالمي.
فهذه هي حقيقة فلسطين: أن تنتصرَ كلّما هُزمت.
اليوم التالي
مرحلةٌ جديدة أطلّت على غزة، ومعها القضية الفلسطينية. الأميركيّ يسوّق لشرق أوسط لا مكان فيه لأيّ عمل مسلّح خارج إطار الدول، ما يعني فلسطينيًا انتهاء حقبة كاملة من العمل الفدائي بدأت مع منظمة التحرير الفلسطينية في مطلع ستينات القرن العشرين، واستمرت مع ولادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على وقع الانتفاضة الأولى عام 1988، في حيّ الصبرة بمدينة غزة.
لا يزال المشهد ضبابيًّا حول المستقبل، وحول الكيفية التي ستُحكَم بها غزة، ومن سيتولّى الأمن والإدارة فيها.
إلّا أنّ الواضح حتى الآن أنّ حماس ستكون جزءًا من المشهد، وقد أُوكلت إليها مهمة ضبط الأرض بعد اتفاق وقف النار، بمباركة أميركية، وامتعاض إسرائيلي، ورغبات عربية متناقضة.
ولا يمكن الجزم بأنّ الصراع العسكري قد انتهى؛ فحركة حماس لا تزال تحتفظ بما تبقّى لديها من سلاح، وتتولّى أمن المدينة، فيما تستمر التهديدات الأميركية والإسرائيلية بالعودة إلى الحرب في حال خرق الاتفاق.
وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات حول حقيقة النوايا في تل أبيب، وعمّا إذا كان الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بحرّية الحركة العسكرية في القطاع لجهة استمرار الغارات والاستهدافات.
أسئلةٌ كثيرة تفرض نفسها: أيّ مستقبلٍ يُرسَم لغزة؟ هل مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتحويلها إلى "ريفييرا" لا يزال قائمًا؟ وماذا عن إعادة الإعمار، وبأيّ ثمن؟ من سيستثمر في غزة أولًا، ووفق أيّ شروط؟ وأيّ دور للولايات المتحدة في حكم غزة؟ وما حقيقة انتشار قوات أميركية في القطاع؟
أمّا التساؤل الأهمّ: هل يُراد لغزة نهضةٌ اقتصاديةٌ فعلًا، بعدما فشلت مشاريع تحويلها إلى قطعة أرض خالية من السكان واستبدالهم بالسيّاح والمنتجعات والفنادق والاستثمارات؟
أم أنّ المطلوب إبقاؤها مساحةً مدمّرةً بلا أدنى مقوّمات للحياة، وإدخالها في صراعاتٍ داخلية جديدة؟
المعركة بدأت للتوّ
يصعب تقديم إجابات على مستقبل مجهول حتى الآن، لكن المؤكد أن معركة كبرى بدأت للتوّ، معركة بجنود وأسلحة من نوع جديد. فمنذ انتهاء حرب غزة والانقلاب العالمي والإقليمي الكبير، والتمهيد لنسخ جديدة معدّلة من "كامب دايفيد"، والترويج لعشرات الاتفاقات الإبراهيمية التي يسعى ترامب ومبعوثوه إلى تسويقها في المنطقة، أصبحت معركة فلسطين في مكان آخر.
معركة فلسطين الآن هي مع الذاكرة، للحفاظ على القضية كحقٍّ مكرّس، وللحفاظ على فلسطين كفكرة لا تموت.
معركة فلسطين الآن هي الاستمرار في رواية القصة كما هي منذ العام 1917، حين بيعت الأرض ببيان دبلوماسي ووعد خرافي، وقصة شعب أُجبر على استبدال بيته وقريته ومدينته بخيمة في الشتات.
هذه المعركة رابحة حتمًا، أبطالها كُثُر، وبعضهم لم يُولد بعد.