15-أكتوبر-2015

تنتظر العودة (ماتيو ألكسندر/أ.ف.ب/Getty)

أعيش هنا في فرنسا منذ ستة عشر عامًا. جئت طلبًا في اللجوء بعد أن هربت من غزة ومن جحيم العيش في سجنها الكبير ذي السماء المفتوحة. يعد قدومي إلى هنا لجوءًا ثالثًا لا يقارن طبعًا بلجوء جدتي ونكبتها ولا بحسرة أمي التي تنهدتها بصعوبة حين وصلت إلى صحراء الإمارات الخالية. عائلة أمي هجرت من "بيت جرجا" الفلاحة إلى غزة. وعائلة أبي هجرت من بئر السبع إلى غزة. هجر والدي من جديد في أوائل الثمانينيات. كان جدي البدوي يعمل كحارس مدرسة في غزة، يعتني بزوجته التي فقدت عقلها أثناء رحيلها من بئر السبع معه إلى غزة.

ما أزال أتذكرها وهي تشعل الفحم في (الكانون) وتضفر جدائلها الرمادية. ترتدي الثوب البدوي الذي يحمل عبق النار والدخان. يلف لها "سيدي" جدي سجائرها الورقية. كانت جدتي تنادي مرارًا "يا صقر..يا سالم..لسة الطريق طويلة" فيجيبها جدي سالم "ارتاحي يا هدبة..وصلنا..وصلنا". كان لنا بيت صغير نفترش أرضه في حارة "العبيد" في قطاع غزة المحاصرة. كنا سبعة فتيات يعشن حياة بسيطة في أزقة المخيمات الفلسطينية في القطاع. ننتظر يوم السبت بفارغ الصبر حيث يعود أبي من عمله في الأراضي المحتلة محملًا بالملابس "المستخدمة". تزيننا أمي وترفع شعورنا بإيلاستيك مشدود.

اقرأ/ أيضًا: أم أمين التي تختصر النكبتين

أمي كجدتي لا تحب الشعر المفرود ولا الغرة. نظيفة إلي حد الجنون تنافس نساء المخيم في النظافة والنشاط. كانت أمي تستيقظ باكرًا في الصباح تحمل سلة بلاستيكية خضراء وتذهب إلى سوق الخضرة في القطاع. تتركنا في المنزل وحيدات تعتني بنا أختي الكبرى إيمان والتي لم تتجاوز العاشرة حينها. كان البيت ضيقًا يحمينا سقفه الإسبست "الزينجو" من المطر. الأرض فرشت بحصيرة وعليها فراش أرضي ننام عليه نحن الأخوات مرتصات ندفئ بعضنا البعض في أيام البرد القارس "الأربعينية". لاأذكر من النكبة غير أحاديث جدي. أذكر وجهه الجاف والحاد. كانت عيناه بلون العسل، يلبس عباءة ويتكأ على عكاز حين يمشي. ينتظر يومًا يعود فيه ليمتطي فرسه في صحراء النقب. والد جدي اسمه حرب من قبيلة التياهة. المؤسف أن آخر ما يربطني به كان والدي الذي توفي في صحراء الإمارات، فاقدًا لحلمه وحلم أبيه في أن يدفن في النقب. من النقب لا أعرف شيئًا ولم أزره ولا أستطيع زيارته. لا أتحدث البدوية ولا أفهمها. لغتي لا أعلم عنها شيئًا غير اللكنة الغريبة التي تصدر من مخارج حلقي.

لدي لكنة لاجئة تشتَّتَت في بقاع الأرض والذكريات تبحث عن تشكيل هوية مكونة من ذكريات

لكنة مختلطة بلكنة أم فلاحة، أب بدوي لا يتحدث البدوية، لكنة إماراتية، غزاوية وأخيرًا مغاربية وفرنسية. لكنة لاجئة تشتتت في بقاع الأرض والذكريات تبحث عن تشكيل هوية مكونة من ذكريات لم تعشها وأخرى صنعتها حيواتها المتعددة ما بين اللجوء والهجرة. ما أكتبه متشتت كأفكاري، أبحث من دون أمل عن بقعة أرتاح فيها. بقعة صغيرة تحت ظل زيتونة في فلسطين. أجل هناك بعيدًا في فلسطين والتي لا يفصلني عنها سوى البحر الأبيض المتوسط. أذهب إلى مرسيليا بين الحين والآخر محاولة في الإبحار بخيالي. أتخيل وأحلم أن أمتلك زورقًا صغيرًا أضيع به لأصل إلى أي مكان على شاطئ فلسطين. نحن اللاجئين أرضنا تحمل اسم "ذكريات" وبعكس العالم ممن يحمل حقائب عدة حن يسافر، نحمل ذكرياتنا أينما ذهبنا في إصيص من فخار. نسقيه ونعتني به. 

أتذكر حين قدمت إلى هنا، أصر صديقي الفرنسي على عزيمتي لآكل ساندويش فلافل رائحة أقراصه تشبه تلك التي يلفها جارنا أبو محمود بورقة الجريدة في السابعة صباحًا قبل أن أتوجه إلى جامعتي. كنا نصطف في الطابور في وسط باريس، ننتظر دورنا لشراء سندويش الفلافل. رأيت على الحائط صورة معلقة ومكتوب عليها بالفرنسية والعبرية فلافل. سألت عن مالك المطعم ليخبرونني بأنه يهودي. جن جنوني وصرت أصرخ بالإنجليزية تارة والفرنسية تارة أخرى "الفلافل فلسطيني"، "الفلافل فلسطيني". 

صرت أصرخ بالإنجليزية تارة والفرنسية تارة أخرى "الفلافل فلسطيني"، "الفلافل فلسطيني"

استغرب الجميع وحاول صديقي تهدئتي. الفلافل ذاته سرقوه ويبيعونه ساخنًا وطازجًا كما كنا نأكله في غزة. يسرقون الذكرى. يبيعونها مع مقبلات "فلفل أحمر" فحتى الفلفل الغزاوي سرقوه! يبيعونها مع "تهينة" (طحينة) بيضاء يعرضونها على السياح! كانت هذه أول مرة أشعر بها بالخوف على أرضنا "ذكرى" ويحاولون سلبها منا.

 في موقف آخر كنت أريد أن أتوجه لفتح حساب مصرفي حين سألتني المدام الفرنسية عن بياناتي الشخصية. أخبرتها بأنني من فلسطين. احتارت في أمرها وظلت لمدة ساعة ونصف تبحث عن حل لمشكلتي. سألتني هل أنت "إسرائيلية"؟ لا يوجد في الحاسوب "فلسطين" كدولة. قلت لها أنا فلسطينية! قالت وأين جوازك؟ قلت لها "لا أمتلك غير وثيقة سفر من مصر". تعجبت فأخبرتها بأنني أمتلك أرض "ذكرى" وليس في حقيبتي سوى وثيقة سفر مصرية ". تأففت الموظفة وشعرت بأنها تعاقبني على احتلال لم أختره. انتهى بها الأمر في أن تضعني في خانة "الأبارتيد"!

 كانت هذه صدمة أخرى في حياتي الجديدة كفلسطينية ولاجئة تهجر من جديد ولكن بخيارها هذه المرة. اللجوء الأول كان لأجدادي في الـ٤٨، ولانزال منذ ذلك الوقت، نحمل "كروت الأونروا" التي تضمن بياناتنا الثبوتية كلاجئيين فلسطينين ننتظر يوم عودتنا.

 قررت الهرب هذه المرة لأوروبا طمعا في لجوء شخصي أستطيع فيه العيش كإنسانة طبيعية بعد عملي في الصحافة في غزة وبعد عيشتي وبحثي الدائم عن حرية تليق بي كامرأة ورثت اللجوء أبًا عن جد. لم أعتد يومًا على الراحة. ولم أشعر يومًا بأن الحياة يمكن أن تكون في يوم من الأيام سهلة، وكأننا نحن اللاجئين ولدنا لنشقى. ولدنا لنغترب، لنبحث عن أمل يليق بنا، وعن بقعة آمنة نفرش عليها أرض "ذكرى". نحن اللاجئين معذبون ومشردون في الأرض. يحملنا أجدادنا عبء الذكرى. نحمل خطايا لم نرتكبها. ينكلون بنا وكأننا نازيون. لم أتمن يومًا ما سوى أن أعيش بحرية تحت غصن زيتونة.

لم أتمن يومًا ما سوى أن أعيش بحرية تحت غصن زيتونة

 وبعد كل هذه السنين من الاغتراب ورغم احتضان فرنسا لي وانتمائي لها،إلا أن هويتي لا تزال "ذكرى" شكلتها جدتي في رائحة سجائرها الورقية وفي صوتها الذي لا يزال يردد في رأسي "يا صقر..يا سالم..يا أسمى..لسة الطريق طويل". جدتي هدباء ماتت وأنا لم أصل بعد. ما بيني وبين فلسطين بحر. اللون الرمادي في شعري صار يغزو سواده، أجدله على شكل ضفائر هدباء. أشعر بالعجز أمام أمي وطفولة عاشتها في مخيم جباليا، لم تحتفظ منها سوى بـ"ذكرى". وأشعر بحرقة الموت في الغربة، حرقة تنهش جسدها. 

أولادي يكبرون في أرض "ذكرى"، هناك يحمل الأطفال "النكبة". يتحدثون الفرنسية والفلسطينية بلكنة جديدة تخصهم هم فقط أحفاد اللاجئين. هم اللاجئون الجدد نربيهم على كيفية الاعتناء بـ"ذكرى". 

يحلمان بتحقيق ما عجزت عن تحقيقه. يريدان أن يلامسا أرض "ذكرى" بأقدامهما. أشعر بالدفء حين أرى صورًا سيرسلان بها إلي. صور سيلفي من القدس وحيفا وعكا وبئر السبع. أشعر بحنين لأرض "ذكرى" أشكل ذكراهم كما تشكلت في قلبي وعقلي "ذكرى" أبي وأمي وأجدادي. أرى نفسي هناك، أنتظر على الحدود المصرية تارة، الأردنية تارة وفي مطار بن غوريون تارةً أخرى، ألوح بيدي مودعة لهما. أعرف بأنهما سيعودان لي بذكريات عديدة منعت من أن أعيشها. أعرف هذا وأنتظر.

اقرأ/ أيضًا:  شباب غزة.. بدنا نشوف الضفة!