01-يونيو-2021

جنازة الشهيد زكريا حمايل (Getty)

عندما تسجل أحداث الإحدى عشر يومًا من العدوان على غزة – الذي سُمي صهيونيًا بـ "حارس الأسوار" وفلسطينيًا بـ "سيف القدس" – ومرادفتها الأعم والتي شملت الوطن الفلسطيني من النهر إلى البحر بـ"انتفاضة الشيخ جرّاح واللد" فإن ما يلفتُ المؤرخ أو الباحث هو انتفاضة الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، التي كانت المفاجأة القنبلة التي سمع دويها في كل مكان ودقت ناقوس الخطر حول مصير الكيان العنصري الصهيوني، واستمراره كما تريد له أن يكون دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ دولة يهودية.

حوّلت الاعترافات بالكيان الصهيوني قضية الشعب الفلسطيني من قضية شعب وطنه برمته تحت الاحتلال إلى مشروع يدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة الصهاينة عبر التفاوض

من وعد بلفور إلى صفقة القرن

ثلاثة وسبعون عامًا هي عمر تنفيذ القوى الاستعمارية الغربية مشروعها الاستعماري الإحلالي من خلال وعد بلفور (1917) أولًا، ومباركة وتصديق شرعي من قبل عصبة الأمم المتحدة في مؤتمر سان ريمو (1920) وهيئة الأمم المتحدة ثانيًا، ليصبح الكيان دولةً معترف بها عالميًا وفق قرار تقسيم فلسطين 181، نالت اعترافًا عربيًا مصريًا منفردًا إثر اتفاقات كامب ديفيد (1978)، وللأسف فلسطينيًا (قياديًا) في اتفاق أوسلو في بداية تسعينيات القرن العشرين.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين التي تحضنا على المعرفة

لقد حوّلت هذه الاعترافات قضية الشعب الفلسطيني من قضية شعب وطنه برمته تحت الاحتلال أي 27 ألف كيلو متر مربع إلى مشروع فلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) وعالمي (الأمم المتحدة) يدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة الصهاينة عبر التفاوض. وللأسف وقعت قيادة المنظمة في المصيدة، وانتقلت منظمة التحرير تحت شعارات التكتيكي والمرحلي منذ عام 1974 مرورًا بالثمانينات إلى التعاطي مع مشروع ريغان (1982) حول الكونفدرالية مع الأردن، إلى اتفاق أوسلو عام (1993) التي جعلت قضية فلسطين قضية نزاع حدود، مما أخرج القضية من جوهرها، رغم إصرار المنظمة تصريحاتٍ وقراراتٍ أن تطبيق حق العودة 194 هو موضوع على طاولة البحث بعد إقامة الدولة، ضمن صيغ غامضة وتطبيقات لها علاقة بالأعداد والتفاوض على عودتهم بموافقة الدولة المحتلة.

بتلك الاعترافات جرت قوننة الاستعمار الصهيوني وجعله صاحب حق شرعي، وهو الذي يتكرم بما يستطيع تقديمه من فتات لأصحاب الأرض الأصليين، كل ذلك تحت مسميات عملية التسوية التي تعني لغويًا تسوية حقوق بين طرفين متنازعين على الملكية، وهو بحد ذاته جريمة أخلاقية وسياسية. تلك التسوية التي لم تنتج شيئًا سوى المزيد من الأغلال في معصم الفلسطيني، حيث ظل فيها العدو طليقًا في فعل ما يريد، والفلسطيني حبيسًا لما وقع عليه ولم يلتزم به العدو، وهنا تحوّل الاتفاق المؤقت في أوسلو وحتى بعد انتهائه رسميًا عام 2000 إلى اتفاق مؤبد، وأصبحت السلطة الفلسطينية والحفاظ عليها وتقويتها أهم من تحرير الأرض لدى شريحة قيادية فلسطينية مُسيطرة. والسلطة دون دعم الصهاينة وموافقتهم على تحويل المال وجبي الضرائب لا تستطيع الاستمرار يومًا.

لذلك، وأمام معارضة الوطنيين فصائلَ ونخبًا سياسية على استمرار جلوس القيادة السياسية داخل مصيدة أوسلو والضرر الكبير الذي لحق القضية الفلسطينية شكلًا وجوهرًا، اتخذت المجالس الوطنية والمركزية عديد القرارات لإلغائه، إلا أن شيئًا لم يحصل، مما تسبب بالشلل والتصدع، وتحوّلت القضية الفلسطينية إلى قضية اقتصادية وتسهيلات حياتية لن تمنح الفلسطيني إلا طوق نجاة إنساني بالعيش ضمن قوانين الاحتلال ومبادراته تخفيفًا وتضييقًا وخنقًا، وهو ما عبّرت عنه بنود ما سُميّ بـ "صفقة القرن".   

هبّة الداخل الفلسطيني: تغيير ميدان الصراع

جاءت انتفاضة الداخل لتغيّر المسار وتلفت الانتباه إلى أن القضية ليست فلسطينيي العام 1967 وحقوقهم وإنشاء دولة لهم، بل القضية كل فلسطين من النهر إلى البحر. ومع مظاهرات الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء خارج الوطن وبلاد الاغتراب، أعيدت القضية الفلسطينية إلى جوهرها؛ قضية وطن بأكمله تحت الاحتلال، وأصحاب أرض وحقوق ما زالوا يتمسكون بتحريرها وعودتهم إليها.

أصبحت السلطة الفلسطينية والحفاظ عليها وتقويتها أهم من تحرير الأرض لدى شريحة قيادية فلسطينية مُسيطرة

المهم في انتفاضة الداخل أنها في جوهرها ثورةٌ على الأسرلة والتمييز العنصري الذي تمارسه سلطات الاحتلال بحق قرابة الاثنين مليون من أبناء الشعب الفلسطيني، وهم السكان الأصليون لفلسطين الذين ظلوا في مدنهم وقراهم  بعد نكبة العام 1948، ولم يستطع العدو الصهيوني تهجيرهم من أماكن سكناهم، أو أولئك الذين هُجروا إلى مدن مجاورة قريبة ولم يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، إذ ما زالوا رغم مرور ثلاثة وسبعين عامًا لاجئين في وطنهم، مع أن بلدات الكثير منهم تقع على مرأى عيونهم، إلا أنهم لا يستطيعون العودة إليها والعيش فيها.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين وجيلنا.. درسٌ في معنى الحرية

وفي خضم هذه الرؤية التي كشفتها الأحداث، التقط العالم صورة هول المأساة، التقطتها الشعوب الحرة أولًا، والحكومات ثانيًا، بحيث تمثّل واقع النكبة أمامهم من خلال مأساة ترحيل عائلات الشيخ جراح في القدس؛ هؤلاء الفلسطينيين الذين اقتلعتهم العصابات الصهيونية من بيوتهم ومدنهم عام 1948 وحولتهم إلى لاجئين في وطنهم في مناطق ما يعرف بـ 1967.

العالم يتقدم في فهم واقعنا داخل كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، وعلى القيادة السياسية الفلسطينية أن تتقدم وتتحرر من أثقالها أو تُسلّم الراية تدريجيًا، وعبر عملية ديمقراطية أو توافقية، للجيل الجديد الذي يعرفُ كيف يتعامل مع أدوات العصر الحديث سياسةً وتكنولوجيا ورأي عام، وما حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS إلا دليل بيّن على ما يستطيع الشباب فعله متى امتلكوا زمام المبادرة.

ومن الملاحظ أن انتفاضة فلسطين – كل فلسطين – وجدت صداها حتى في الأوساط الدولية والأممية، فللمرة الأولى في تاريخه، يُشكّل مجلس حقوق الإنسان لجنة للتحقيق في ممارسات سلطات الاحتلال تشمل فلسطيني الداخل المحتل عام 1948 مع باقي أشقائهم في مناطق عام 1967؛ أي أن القرار يشمل كل فلسطين، ولأول مرة نسمع وزير خارجية فرنسا يتهم دولة الاحتلال بممارسة سياسة الفصل العنصري، حيث قال جان إيف لودريان خلال مقابلة صحافية مع إذاعة RTL وصحيفة Le Figaro إنّه "في حال وجد في المستقبل حل مغاير لحل (إقامة) الدولتين، سنكون أمام وصفة لفصل عنصري مزمن".

وكانت قد سبقته، منظمة هيومن رايتس ووتش التي وصفت دولة الصهاينة بدولة أبارتهايد. وأقرّ برلمان إيرلندا بأن إسرائيل ارتكبت جرائم تطهير عرقي Genocide وجرائم حرب وجريمة الاستيطان غير الشرعي. وتعالت الأصوات في الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الأمريكي (حزب الرئيس جو بايدن)، الذي اتهم أعضاءه دولة الصهاينة بالعنصرية، الأمر الذي دفع الكاتب اليهودي الأمريكي الصهيوني الميول توماس فريدمان الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز، إلى دق ناقوس الخطر وكتابة: "بات من الواضح بعد 11 يومًا من «الحرب بين إسرائيل وحماس»، أنه ما لم يتم الحفاظ على إمكانية التوصّل لحل الدولتين، فإن واقع الدولة الواحدة الذي سيحل مكانه لن يؤدي إلى تفجير الوضع في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، بل قد يفجر الحزب الديمقراطي الأمريكي وكل المنظمات والكنائس اليهودية في الولايات المتحدة أيضًا".

ما بعد أوسلو: العودة إلى المنطلقات الأولى

كثيرةٌ هي المواقف التي سُجّلت بعد هذه الانتفاضة الفلسطينية الشاملة، والتي تقود إلى طرح مشروع فلسطين كاملة؛ فلسطين التي تناضل مُجتمعةً ضد سياسات الفصل العنصري والتطهير العرقي والعنصرية وجرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية؛ فلسطين كاملة تحت الاحتلال هي حقيقة لا شعار؛ فلسطين كاملة في مقاومتها للاحتلال هي أيضًا واقعًا وليست خيالًا.

أعيدت القضية الفلسطينية إلى جوهرها؛ قضية وطن بأكمله تحت الاحتلال، وأصحاب أرض وحقوق ما زالوا يتمسكون بتحريرها وعودتهم إليها

لذلك، يجب التخلص من أدران اتفاق أوسلو الذي كاد يخنق الحركة الوطنية الفلسطينية وينهيها مرةً وإلى الأبد، وجعلت إفرازاته فلسطين غير تلك التي نعرف، والتي انحصرت حدودها في مناطق الضفة الغربية فقط، أو بالأحرى المناطق التي يسمح بها العدو في الضفة الغربية. وعليه فالحل يكمن في العودة للمنطلقات الأولى لفلسطين كاملة، وفلسطين كاملة تعني العودة للميثاق الوطني الفلسطيني.

اقرأ/ي أيضًا: عن عيد غزة.. جولة رابحة على طريق النصر

لا تعني العودة إلى الميثاق دعوةً لانقلاب على المنظمة وقيادتها، بل تعني عودة المنظمة إلى ذاتها وركل سياسات المرحلية بعيدًا عن العقل الفلسطيني، فإذا كان التكتيك الفلسطيني يقضي بدولة عام 1967، ومن ثم عودة اللاجئين إلى ديارهم بالداخل في أراضي عام 1948، فإن التغيير الذي حدث اليوم يُعجّل في مثل هذه الخطوات، لكن بتجاوزها نحو دولة فلسطين كاملة من خلال تحويل الصراع مع المحتل إلى برنامج للقضاء على جميع جرائمه في كل فلسطين، ولتحرير كل الفلسطينيين أينما كانوا من هذه الجرائم، من خلال تبنّي النموذج الجنوب أفريقي وأدواته ووسائله، دون الاستغناء عن أية وسيلة كفاح، فكلها مشروعة.

يجب تغيير الهدف الفلسطيني من برنامج مرحلي لحدود عام 1967، إلى برنامج نهائي لإقامة دولة فلسطينية على كل فلسطين؛ دولة حقوق ومساواة دون تمييز عرقي أو قومي أو ديني، يعيش فيها كل من يقبل العيش بسلام وعدالة للجميع دون طرد أو ترحيل أحد، وكل ذلك لن يتم إلا بهزيمة الصهيونية كحركة استعمارية عنصرية استعلائية قروسطية متخلّفة خارجة عن العصر وقوانينه. وهزيمة الصهيونية يكمن في تطبيق ما هو مخالف ونقيض لمبادئها؛ أي بتحقيق السلام والمساواة والعدالة بين بني البشر.

إذا لم تلتقط القيادة الفلسطينية هذه اللحظة التاريخية، فإنها تهدر فرصة تاريخية، بل وستتهم لاحقًا بأنها كانت حجر عثرة وأداة إحباط لهبّة ومبادرة فلسطينيتين مستحقتين لإحداث التغيير، وهذا ما سيجعلها لاحقًا هدفًا للهجوم من الحركات الطلائعية الشبابية الصاعدة، والتي برهنت خلال الأيام القليلة الماضية أنها من يقود الجماهير ويحركها نحو هدف فلسطين كاملة.

فلسطين كاملة ليست وصفة سحرية، بل هدف واقعي إذا تخلّص بعضنا من الأوهام، وأولها وهم حل الدولتين الذي تحوّل إلى مصيدة احتلالية خنقتنا وأضاعتنا وكبلتنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في ضرورة التحرر من نكبة الوهم والاستسلام للصهيونية

عن الحقّ في رفض إسرائيل