30-مايو-2021

المقدسية مريم الغاوي تتظاهر أمام منزلها في حي الشيخ جراح (شبكة القسطل)

صورة يعقوب

المستوطن الذي يدافع عن خياره في استيطان بيت الكرد في حي الشيخ جراح، لديه حجة مقنعة: تهجير هؤلاء ليس قرارًا اتخذته بنفسي. إنه قرار من سلطات أعلى، وهي التي تنظم أمور حياتي وحيوات الآخرين وتحول دون اصطدام مصالح الناس وغاياتها وتنافرها، وتمنع تفشي العنف وانفلاته من دون عقال ضمن المجتمع. وليست مسؤوليتي الشخصية أن أراقب مصائر هؤلاء الذين سقط قرار المحكمة على رؤوسهم. هذا أمر يجدر بالسلطات حله على أفضل وجه أيضًا.

السيدة التي تحمل لافتة تشير إلى بيتها، بيت الغاوي، الذي احتله مستوطنون، تعلن بوقفتها الصابرة تلك، أنها لن تتوقف عن منازعة السلطات التي شردتها من بيتها

المستوطن، كحال معظم المواطنين في كل دول العالم، لا يرى عائلة الغاوي أصلًا، وليس بوسعه أن يراها، أو يطلع على خصوصياتها ومشكلاتها، فهذا شأن سلطات عليا أيضًا، وليس مسموحًا له كمستوطن أو مواطن، أن يطلع على أحوال هؤلاء ويشفق عليهم أو يتضامن معهم، إلا حين يشردون من منازلهم وتنكشف دواخلهم وخصوصياتهم على كل عابر. في هذه الحال، لا يعود هؤلاء مساوين له في المواطنة ويتحولون إلى مجرد لاجئين، يمكن الإحسان إليهم، ويمكن التضامن معهم، ويمكن تخفيف معاناتهم، لكن ما لا يعود ممكنا هو أن يطمحوا مرة أخرى للتساوي مع المواطنين الذي يعتبر يعقوب نفسه منتميًا إلى فئتهم.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين وجيلنا.. درسٌ في معنى الحرية

عائلة الغاوي

السيدة التي تحمل لافتة تشير إلى بيتها، بيت الغاوي، الذي احتله مستوطنون، تعلن بوقفتها الصابرة تلك، أنها لن تتوقف عن منازعة السلطات التي شردتها من بيتها، لأن توقفها واستكانتها ورضوخها للأمر الواقع يعني أنها ترتضي النزول من مرتبة المواطن، أو شبه المواطن، الذي يملك حقًا قاطعًا بالاحتفاظ بأسرار بيته بعيدًا عن أعين الفضوليين. وهي تنازع المستوطن المحتل لأنها في منازعتها له تمنعه من أن يؤسس أسرارًا في البيت الذي تعرف كل تفاصيله: هذه غرفة ابنتي، وتلك الغرفة كنت أقضي فيها سحابة نهاري، وهذه غرفة طعامي، وهذه النباتات زرعتها بيدي. وتاليا فلا يمكنك أيها المحتل، أن ترقى إلى رتبة صاحب البيت. في أحسن أحوالك، وحتى لو أصرت السلطات على تشريدي من المنزل وإسكانك فيه، لن ترقى إلى مرتبة صاحب البيت، وستبقى بمرتبة المستأجر المؤقت.

هاتان الصورتان في واقع الأمر صنعهما النضال الفلسطيني. وهما صورتان لا تستطيعان إتمام عبارتهما إلا حين يحوز المتلقي والمشاهد لهما معرفة بما يجري. ذلك إن الصورتين خاليتان من الدماء، التي تضطلع بوظيفة جذب المشاهد العابر وتدقعه إلى التضامن الذي ينقضي أثره عند تصفح الصورة أو شريط الفيديو التالي. بل إن هاتين الصورتين تلزمان المتلقي بأن يتعرف ويتقصى. وحين يجد المتلقي نفسه مجبرًا على التعرف والتقصي، يُفشل مسعى السلطات العليا المحتلة لإخفاء أثر الفلسطيني الحي، ولا يسمح له بالظهور إلا قتيلًا، يجدر بالعالم الساعي إلى مستقبله أن يسارع إلى دفن جثته ليبني فوق الركام الذي خلفته عملية قتله، مكانًا مطواعًا لا يعيق خطط السلطات في هندسة المجتمعات وتشذيبها على النحو الذي يتلاءم مع ادعاءاتها.

الفلسطينيون ليسوا مجرد ضحايا تقتلهم آلة قتل غاشمة. هم أيضًا فضيحة آلة القتل هذه التي تحاول أن تدعي أنها تشذب الغابة على الأرض الفلسطينية

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل بوصفها وباء الديمقراطية الذي لا شفاء منه

استنادًا إلى هاتين الصورتين وصور أخرى كثيرة ومشاهد مماثلة تزخر بها أعمال فنانين وسينمائيين فلسطينيين يبدو التضامن مع فلسطين مشروطًا بالمعرفة. فالفلسطينيون ليسوا مجرد ضحايا تقتلهم آلة قتل غاشمة. هم أيضًا فضيحة آلة القتل هذه التي تحاول أن تدعي أنها تشذب الغابة على الأرض الفلسطينية لتصنع منها بستانًا نافعًا وبلا أعشاب ضارة وأشجار لا لزوم لها. كل مرة يثبت الفلسطينيون فيها أنهم شعب لا غنى عنه، حتى للدولة الإسرائيلية نفسها، كما حدث في الأسابيع القليلة الماضية، تخسر إسرائيل من رصيدها الذي كونته بادعاء أنها تجلب المعاصرة والحداثة والديمقراطية إلى منطقة يقيم فيها البرابرة الذين لا حل إلا بتهجيرهم. وكل مرة يصر الفلسطينيون فيها على إثبات أنهم أصحاب لسان يستطيع أن يقدم حججًا لا متناهية دفاعًا عن حقوقهم، يُعقل لسان المستوطن يعقوب ولا يعود قادرًا على تبرير وجوده في هذا المكان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 

عن عيد غزة.. جولة رابحة على طريق النصر

اليمين المتطرف آخر داعمي إسرائيل في أوروبا