19-يوليو-2016

مهند عرابي/ سوريا

فستانٌ أحمر! منذ بدء الحرب لم أرتد فستانًا. نظرة واحدة كانت كافية لأشتريه وأمضي. ألا تغيّر الثيابُ أمزجتنا الحربية أيضًا؟ سأكون أنثى كما أشتهي. وتبًّا للحرب ولباسها: فستانٌ أحمر، حذاءٌ بكعبٍ عالٍ، معطف أسود، جوارب سوداء شفّافة، سأكون كما أحبّ. 

كعارضة الأزياء رحتُ أجوبُ البيت، متنقلة من مرآة إلى أخرى، ومن فستان لآخر. فستانٌ أبيض تُزَيّنُه حبات اللؤلؤ عند الخصر. معطف بيج، شال حريري بلون الفيروز. أتأمّل المرآة طويلًا، قبل أن أعود للأحمر. أحمر، أبيض، ثم أحمر.

وافقتُ على مظهري ليوم الغد، واندسستُ في فراشي بابتسامة ترفض الإغفاء.

صباحًا.. الابتسامة لا تزال معلقة بشفاهي! يبدو أني قضيت الليل كله بابتسامة مستيقظة! يا الله! كيف لأشيائنا الصغيرة أن تعطّل صوت الحرب؟ سأخرج إلى العمل بكل هذه الثقة. سأكون سعيدة اليوم. قليلًا من الحب أيها العالم. 

وليكن هذا الحبّ للذات. ما الضير في ذلك؟ أولستُ أهلًا لأُحِبَّني؟ أتمادى أكثر، وأفكّر بعدد المتغزّلين بي، وعدوى الفرح التي ستنتقل إليهم منّي. تحرّكتُ مسرعةً وصوت الكعب يزقزق مرتفعًا عن الأرض. المسكين لم يكمل ارتفاعه، فقد أجبره باب البيت على هبوط اضطراري. اللعنة.. كيف نسيت؟ وعاء البنزين الفارغ ينتظرني عند الباب. يجب أن أملأه. لا بنزين في البيت. مولدة الكهرباء لا تعمل بدون بنزين. الكهرباءُ حياةٌ أيضًا. مع أنّي اكتشفتُ مكانًا آخر، ألهو به بعيدًا عن الحياة، التي تنبض مع الكهرباء. انقطاع التيار لم يعد يعيقني عن التقاط صورة سيلفي من موبايلي المنطفئ. ولم يستطع منعي من وضعها على صفحتي على الفيس بوك، رغم أن كمبيوتري في سبات عميق. ولن أحتاج لشحناتها وأنا أتهيّأ للرد على الرسائل الشبقة لأصحاب الصفحات الوهمية. حتى أنّي شاهدْتُ مئات الأفلام الواقعية على شاشة التلفزيون السوداء. لكن وعاء البنزين يجب أن يملأ، بعيدًا عن هذا الخيال المكهرب. 

لهذا عدتُ أدراجي مثل جندي مندحر من أرض المعركة. خلعت الفستان، وحذاء الكعب العالي. أخرجت سروال الجينز، جاكيت سبّور، وحذاءً رياضيًّا. علّقتُ أنثاي بكل عناية واحترام. أدّيتُ لها تحية عسكرية وأغلقتُ الخزانة.
بالثياب الرياضية تلك، حملتُ الوعاء. هرولتُ باتجاه يوم بائس، نصفه في العمل ونصفه الآخر في محطة الوقود اللعينة.

ثلاث ساعات انتظار، وتفكيري يقتصر على الاحتمال التالي: هل سيقبل أن يبيعني البنزين أم سيكتفي بملء بطن سيارتي فقط؟ فكّرت بالطرق التي يمكن استخدامها، علّه يقبل أن يلبّي طلبي.

حضّرت الخطط. وبحثت عن الأساليب المناسبة لكي أعود من مهمتي "الطّاقيّة" ظافرة.

دوري أخيرًا.

نزلتُ من السيارة. يدٌ رقيقةٌ نحّتني جانبًا. بخطى هادئة اقتربَتْ. بفستانها الأحمر القصير، وكعبها العالي، وفائض الأنوثة. أخذتْ خرطوم البنزين وانحنتْ بغنج تملأ خزّان السيارة. ما إن أمسكتْ الخرطوم، حتى جاءها عامل المحطة راكضًا. راح يملأ معدة السيارة الفارغة ويملأ عينيه بالأحمر القصير، والأنوثة التي ضاعت في زحام الحروب. أراها تضحك معه، تتمايل بدلال افتَقَدَتْهُ هي أيضًا منذ وقت ليس بالقصير. أتابعها وكأنّي خارج المشهد. فتفكيري يقتصر على وعاء بنزين ممتلئ. كأنّها قرأت أفكاري، لتبعث لي غمزة مشفّرة تطمْئِنُني وتخفّفُ من قلقي.

اندلق البنزين على يدي. بطن سيارتي امتلأ. وحذائي الرياضي شبع أيضًا من هذه المادة الخرافية. بينما الفستان الأحمر لا يزال يوزّع سحره وغوايته على المتجمهرين حوله. 

أوقفتُ تدفق البنزين. ورحتُ أنظر في كل الاتجاهات، مخطّطة لإشباع مولّدة الكهرباء كما فعلتُ مع السيارة. الكل اختفى حتى الفستان الأحمر وغمزته المطَمْئنة.

اقترب مني عامل صغير السن. نظر إلى عدّاد الحساب، وهتف بوجهي: "5400 ليرة". لم أناقشه بالفرق بين ما طلبه والسعر المعروض على شاشة العدّاد. بل رحت أكيل له عبارات المدح، قبل أن أطلب منه أن يملأ لي وعائي الفارغ. راح يشرح لي النظام الجديد؛ نظام المراقبة بالكاميرات لمنع البيع لغير السيارات. فقدت الأمل بغنيمة كهرباء لأيام قادمة. وأنا أعدُّ النقود لأسلمه إياها. اقترب مني وهمس بصوت يكاد يسمع: "انتظري قليلًا سأملأه لك".

"يبدو أنّ غمزة الفستان آتَتْ أكلها"، قلتُ مع نفسي. وهو ما تأكّد بعدما أضاف العامل، من خلال تنبيه صغير، بأنّ عليّ أن أعزمه على فنجان قهوة. 

"فنجان قهوة!؟ أين وسط هذا الخراب!؟" تساؤلي المفرط في سذاجته أشبع أنوثتها. لكن ردّ العامل كان حاسمًا، ومخيّبًا لزهوها الأنثوي: "ما عليش، أعطني المقابل نقدًا، وأنا أشرب القهوة بمعرفتي" قالها بتظارف لا يخلو من سخرية.

نقَدْتُه ثمن فنجان القهوة، وانحنيتُ بجانبه أراقب تلبية حاجتي أخيرًا. لم أنتبه لقصر الفستان إلا عندما رأيتُ المتجمهرين حولي وهم ينظرون باشتهاء للساقين العاريتين. مع حركة شدّ الفستان للأسفل، يتكرّر المشهد من فيلم أميركي هذه المرّة. فتاةٌ بفستان قصير أمام سيارة معطّلة. تنحني محاولةً إصلاح العطل، ليحتشد المتطوّعون النّهمون لأكل ساقيها، بدعوى محاولة تصليح العطل. 

قُطِع الفيلم بواسطة يد ممتلئة بالشحم والبنزين، دفعتني ودفعت فتاة الفستان الأحمر وسحبتْ الخرطوم. المتجمهرون يرمقون الوعاء فقط. بدأت معركة المطالبة بملء أوعيتهم أيضًا. منهم من كان يهدّد بتقديم شكاية. آخَر اقترب من الوعاء محاولًا دلق البنزين على الأرض.

تختلط المشاهد، ليستمرّ مشهد السيارة المعطّلة. لكن، بطريقة تجارية هذه المرة. يتزاحم المتطوّعون مبرزين عضلاتهم، متدفّقين كسيلٍ سيحمل السيارة بصاحبتها. كرمى لتلك الأنوثة. في اللحظة التي يصلون فيها، إلى حيث الفستان يواصل ابتسامته البلهاء، يسقط المشهد في علبة الكوكاكولا. لا متطوّعين هناك. بل مجرد مدمنين لهذا المنتج العالمي. سيحظى المنتصر بعبوة الكوكاكولا التي نسيها الفستان في السيارة. لتبقى الفتاة وحيدة مع فستان قصير وسيارة معطّلة.

هنا، لم يرحلوا وبقي الكعب العالي مع أعداد المتدافعين لمَلْءِ أوعيتهم من البنزين. الفستان يعود لغمزاته منقذًا الموقف مرة أخرى. فها هو يمسك اليد التي حاولت رمي وعائنا المترع على الأرض. لم تمسكها فقط، بل داعبتها بحركة خفية لتشل اليد ما أن لمست الوعاء. من أين جاءت بهذه الحركة؟ صوت الكعب عاد ليعلو على صوت المعركة.

الجاكيت امتلأ بالشحم. الحذاء أخذ كفايته من البنزين. يداي تشمّعتا أيضًا من تشبّعهما بالمادّتين. الرجال يتدافعون قربي. يتعاركون. الشتائم تعلو فوق الجميع. أحدهم أطلق رصاصة في الهواء. 
الرصاصة ذاتها لم تستطع أن توقف الحشد المتدفق، لملء القناني والعبوات، وليس لالتهام أنوثتها. ستختنق بكل تأكيد. أسمع نشيجها، شهقاتها. 

الحرب بسبب البنزين لا بسبب أنوثتك يا حمقاء. وهل تعتقدين نفسك هيلين أيتها المعتوهة؟ فرسان طروادة في الأساطير فقط. مع هذا وجدت دموعي تنهمر معها. احْتُجِزنا داخل المحطة فالمعركة على أشدّها والجموع الهاجمة أغلقت الطريق.

استسلمتُ. أمّا هي فلم تفعل. رأيتها ثانية تتباهى بثوب أبيض كالعروس. تدور وترقص والجعير يرتفع من حولها. 

هذا الجمع الصارخ لا يشبه بشيء موسيقى الأعراس. أناديها، لكنها تبتعد راقصة. تلف وتتمايل وتوزع ابتساماتها وغمزاتها على حشد كأنه في يوم الحشر. فجأة تغيّر كل شيء. انقلبت الصرخات إلى أهازيج. نسي الناس أوعية البنزين والمازوت. وراحوا يتمايلون معها ويصفقون لعروس في غير مكانها. من أين تأتي هذه المشاهد؟ لا أعراس في الحرب يا مجنونة.
 
اشتدّت المعركة، راحت الركلات توزَّع في كل الاتجاهات. الرصاص لم يعد يفرّق الناس. لهذا احتاج الأمر إلى قنبلة صوتية أو ربما إشعاعية (ما أدراني أنا؟!). الكل هرع خائفًا. تفرّقت الجموع. الصراخ ملأ المكان. الأقدام تروح وتجيء على غير هدى. لن أكترث لكل هذا الجنون. أريد أن أخرج فقط من هذه المتاهة.

إذا كان الخروج من محطة الوقود يحتاج كل هذا! فكيف سنخرج من الحرب؟ وكيف ستخرج الحرب منا؟

في البيت، بينما كنت أحاول بكل الطرق إزالة الشحم عن الجاكيت دون جدوى، تذكّرتُ الفستان. ركضتُ نحو الخزانة. كان الفستان مكوّمًا على الرّف مثل دم راكد. فيما لطخات سوداء من شحم السيارات، كأنها ضربات فرشاة فنان محترف، تغطّي ظهره بالكامل. 

اقرأ/ي أيضًا:

هنالك خلف العوالم الخفية

عم السيد