فريضة الحج.. تجربة روحانية ألهمت الفنون البصرية المعاصرة

شكلت فريضة الحج مادة خصبة لمخيلة العديد من الفنانين والفنانات على المستوى البصري. هذه الخصوبة البصرية ظهرت على نحو جلي في العديد من الجداريات التي رُسمت على جدران البيوت المصرية، احتفالًا بأداء أصحابها للفريضة. وعلى الرغم من التنوع البصري المُذهل والتناسق اللوني اللذين حضرا في هذه الجداريات المترعة بالألوان والخطوط، فإنها ظلت محصورة ضمن حيز الفلكلور والفن الشعبي. فقد غلب على مجموعة كبيرة منها العفوية والبساطة، نظرًا لتنفيذها من قِبل هواة يعبرون في سعادة وصدق عن مشارعهم الجياشة ومشاركة اللحظة. لكن هذا لا يمنع أن مجموعة متنوعة من هذه الجداريات، أنجزها فنانون محترفون عرفوا باحترافهم لفن الخط العربي وممارستهم للرسم، خاصة في مجال الدعاية والإعلانات المطبوعة. فكانوا أكثر دراية بطبيعة الألوان المستخدمة والقدرة على دمجها وخطلها بالمواد الأساسية التي تُستخدم في الدهان مثل الغراء أو طلاء الزيت.

 تحتفظ لنا المدونة البصرية في العالم العربي بل والغربي بمجموعة متنوعة من اللوحات الاحترافية التي تماهت مع فريضة الحج

على الجانب الآخر، تحتفظ لنا المدونة البصرية في العالم العربي بل والغربي بمجموعة متنوعة من اللوحات الاحترافية التي تماهت مع فريضة الحج، بل وعكستها من خلال اللون والتصوير في أبدع صورة. ومن بين هؤلاء الفنانين التشكيليين، الفنانة صديقة جمعة وهي فنانة بصرية تسترشد بالقرآن الكريم والموروث الإسلامي، لتصنع فنًا يحتفي بتراث ديني وثقافي غني. فنلاحظ أن مجموعة عن الحج، تجعل من الكعبة مركزًا بصريًّا أساسيًّا تتحرك حوله باقي العناصر. ففي لوحتها "كتفًا لكتف" تستلهم "جمعة" مبدأ التجرد والمساواة في الحج، حيث تختفي الفروق الطبقية بين الحجَّاج خلال الطواف وتتلاصق الأكتاف ضمن مشهد سيمتري منتظم مترع بالألوان والروحانية.

إنها قوة روحانية مطلقة يشعر بها الحجَّاج أثناء الصلاة لخمس مراتٍ حول الكعبة أو أثناء طوافهم

ولا يبتعد الأمر كثيرًا عند الفنان السعودي أحمد ماطر والذي يتخذ من الكعبة المشرفة نواةً أساسيةً لأفكاره الفنية في مجموعة "مغناطيسية". وفيها نلحظ وجود الكعبة في المنتصف على هيئة مكعب أسود يتناثر حوله الحجَّاج فيما يشبه بُرادة الحديد المنجذبة بقوة إلى هذا المغناطيس القوي في منتصف العمل. كأن هناك جاذبية غامضة روحانية غير مرئية هي التي تجذبهم إلى هذه البقعة. إنها قوة روحانية مطلقة يشعر بها الحجَّاج أثناء الصلاة لخمس مراتٍ حول الكعبة أو أثناء طوافهم. لقد تشكلت هذه المخيلة لدى "ماطر" من خلال مرويات جده الذي حدثه طويلًا عن أدائه للحج وقوة الإيمان التي كان يشعر بها حينها.

ولأن الفن البصري لا يعرف التقيُّد أو الانحسار ضمن خاماتٍ بعينها دون الأخرى، فيصبح من المألوف أن يتجه فنانون آخرون إلى مساحاتٍ أكثر تجريبية ومغامرة. وهذا ما فعلته الفنانة السعودية مها الملوح في عملها الفني "الطريق إلى مكة" عام 2007. فألوان الأبيض المعكوسة في هذا العمل، تعطينا إحساس الرحيل والسفر إلى مكة المكرمة فوق الجمال. وذلك من خلال استخدام تقنية تصوير الفوتوغرام، حيث تلتقط الصورة دون استخدام الكاميرا، لكن عبر تعريض ورق يتفاعل مع الضوء لمصدر ضوء مباشر، حيث يمكن تحديد النتيجة النهائية للصورة بترتيب الأجسام بطريقة مناسبة تحجب الضوء.

ومن الأعمال البصرية المميزة أيضًا في الفن المعاصرة والتي تتماهى مع موضوع الحج، العمل الفني الذي أنجزه الفنان بيتر غولد، حيث يصور الكعبة باللون الأسود ضمن إطار ذهبي في تقشف لوني ملحوظ. ومع التدقيق في اللوحة للمجسم الموجود في المنتصف، نلاحظ أكف الطائفين والمصليين وهي ترتفع لتلصق بأستار الكعبة، ضمن حساسية مرهفة وذكاء تصويري يذكرنا على الأغلب بأعمال الفنان الأميركي مارك روثكو.

ومن بين اللوحات المثيرة لاهتمام أيضًا، لوحة "الحج عرفة" التي أبدعها الفنان التشكيلي قالب الدلح. فهي تصور على نحو مباشر اصطفاف الحجاج فوق جبل عرفات خلال الحج وقد احتاج لتنفيذها مدة أسبوع بواسطة ألوان الأكريليك. فعلى الرغم من البساطة والمباشرة في اللوحة، فإنها تعطي شعورًا بالخشوع والبهجة في الوقت ذاته.

ويبدو أن فريضة الحج، ظلت من الموضوعات الأثيرة التي تلهم الكثير من الفنانين المعاصرين بأشكال مختلفة. وهذا ما عبَّرت عنه الفنانة السعودية مرام الوتيد من خلال تصوير مشاهد متنوعة للحجَّاج على أقمشة الإحرام البيضاء. وقالت الفنانة في تصريح لها مع صحيفة عكاظ (2018)، إنها جسدت عبر لوحة "فُرادى" حركة من حركات العبادة، واستخدمت الكعبة وحولها آلاف من المسلمين يتجمعون للصلاة. وأضافت أنها استخدمت في عملها الفني الصياغة البصرية، إضافة إلى الخامات المستخدمة في فريضة الطواف بالحج والعمرة وهي الإحرام بأقمشته المتنوعة، واعتمدت على تقنية التثبيت والتركيب بشكل دائري مستلهمة من حركة الطواف حول الكعبة، والإضاءة خلف الأقمشة التي تستدل بها على بداية الطواف، وتتميز فكرة عملها بأن كل قطعة تعد تكرارا للأخرى، وتشكل بتنسيقها مع القطع الأخرى حركة الدوران والطواف حول الكعبة بظلال وأضواء متباينة.

تنوع العناصر واستخدام الخامات المختلفة، لإنجاز الأعمال الفنية كان من أبرز الدوافع لدى الفنانة الباكستانية Laveesa Shazib والتي تدمج الأنسجة مع الورق المذهب على الكتان ضمن إطار تجريدي أو مفاهيمي. وهذا ما نلحظه ضمن مجموعتها الفاتنة حول موسم الحج، حيث تستقي عناصر الحج من الطواف والصلاة والحرم المكي والمسجد النبوي ضمن مجموعة بصرية تفيض بالأناقة والابتكار. ويبدو في تقديمها لهذه المجموعة مدى تأثرها بزيارة مكة والمدينة، فمن بين كل الأماكن التي سافرت إليها لم تشعر بالهدوء والسكينة كما شعرت بها هناك. فكانت هذه الرحلة بالنسبة لها، مصدر إلهام لإنجاز مجموعة الحج.

وإن كانت اللوحة البصرية لها نصيب الأسد في تصوير الحج، فإن فن الخط (كاليغرافي) لم يغب عن المشهد أيضًا. فها هي الفنانة ومصممة الغرافيك أريج النهدي، تنجز تصميمًا ذكيًّا عن الحج. وقد عكست من خلاله ارتباط الحج بفن الخط العربي.

لا نظن أن مقالة وحيدة تكفينا لعرض هذا الثراء الملفت لارتباط موسم الحج بالفنون البصرية والإبداعية، لكننا قدمنا هن مجموعة أساسية متنوعة لفنانين وفنانات من مختلف البيئات الجغرافية والمشارب الثقافية، حتى تقترب الصورة من ذهن القراء.