25-يوليو-2021

يزداد جلوًا يومًا بعد يوم، أن الخطاب السياسي في المنطقة قد بلغ آخر درجة انحداره (Ikon Images)

أجل أجل. الدول وأنظمة الحكم تحركها المصالح، وليس الشعارات والإنشاء. لسنا حمقى لنظن غير ذلك. ومشكلتنا ليست هنا. ليست في الاعتراف بتقدّم الحسابات على "المناقب". مشكلتنا باتت بمعرفة المصالح، وبمن يحدد أين تقع تلك المصالح. سيما أننا نرى بأمّ أعيننا ما يعاكسها تمامًا، ليس مصالحنا العامة، بل حتى المصالح الفردية الضيقة لمن يتحدثون ويبحثون عنها. 

يزداد جلوًا يومًا بعد يوم، أن الخطاب السياسي في المنطقة قد بلغ آخر درجة انحداره، وفرَغ من أي مضمون

والمفارقة أنهم يعاكسون مصالحهم لدرجة تثير التأسّي، بدلًا من أن تثير السرور. مصلحتنا تكمن بارتكابهم أخطاء، ولكن أن تصل أخطاؤهم لهذه الدرجة الفادحة يوقعنا في بلبلة، ويجعلنا نشعر بعدم نزاهة حروبنا، ويفقدنا بهجة ربح الجولة. وكما كان الفرسان في حروب الأزمنة الغابرة يتوقفون عن القتال إذا ما سقط خصمهم عن حصانه أو فقد سلاحه، لأن ذلك سيجعل نصرهم دون طعم ودون شرف، فهذه الدرجة من الحسابات الخاطئة، ستجعل سقوط خصومنا في النهاية مجرد حدث فيزيائي طبيعي، مثل تساقط أوراق شجرة في موعدها الحتمي منتصف الخريف. لا منّة ولا بطولة فيه لأحد. 

اقرأ/ي أيضًا: في أننا مخيّرون بين هاويتين

يزداد جلوًا يومًا بعد يوم، أن الخطاب السياسي في المنطقة قد بلغ آخر درجة انحداره، وفرَغ من أي مضمون يرى أبعد من أسبوعين أو شهرين. 

ولا أظننا قادرين على حصر أسباب هذا الانحدار، وتوقّع مساراته ومستقبله، والأرجح أنه محصّلة لجملة من المعطيات يمكن تلخيصها جميعًا بكلمة واحدة: الاحتضار. 

واحدٌ من الأسباب الجوهرية التي أدّت للوصول لهذه الدرجة هي تداخل الأدوار، وزوال الحدود الفاصلة بين التخصصات والصفات، ورخاوة المعارف وارتباك طرائق التعبير عنها. 

قادة ووزراء خارجية يقدّمون تحليلات سياسية تليق بأمين تحرير صحيفة أسبوعية، صحفيون يقدّمون رؤى وخطط استراتيجية كبرى تليق بفلاسفة، موظفون بمرتبة مستشار أو نائب أو مدير مكتب يتحدثون وكأنهم رؤساء سلطة تنفيذية، مدونون يطلقون الأحكام كقضاة. 

في كلّ شأن وفي كلّ أمّة في الأرض يسود مبدأ "فرض الكفاية"، الذي إن قام به البعض سقط عن الكل. حيث يفعل كل واحدٍ ما عليه، وهو محصلة ما يعرف وما يستطيع، وما تحتاجه المصالح الكبرى.

لكن في زمن الاختلال هذا، يضطرب مبدأ الفروض كما يختّل كل شيء آخر. ولن ينفع أن نقول لأصحاب الفكر: أرشدونا، ارسموا لعقولنا الخطوط العامة. اصنعوا لنا النماذج. ألم يخبركم جيل دولوز بما عليكم فعله؟ حين قال: "إن مهنة الفلسفة صناعة المفاهيم، أما مهنة الفن فهي صناعة المدركات الحسية". 

افعلوا ذلك، اصنعوا الأفكار، اتركوا للسياسيين مطابقتها مع المصالح، ودعوا للإداريين تأطيرها. دعوا لنا تسويقها. دعونا نضرب الأمثلة ونروي الحكايات التي تجعلها مفهومة ثم مقبولة ثم محببة (أو مكروهة لا فرق).

نشعر بالاضطراب حين نرى أساتذة فلسفة يقومون مقام الشتّامين، أو الهتّافين الشعبويين الذين يصعدون على الأكتاف ليرتجلوا سجعًا مثيرًا للحماس، أو يصيغوا المواقف السياسية بإنشاء مقفّى. أو أن نرى صحفيين ـ كما أفعل الآن تمامًا ـ ينبرون للحديث حول المفاهيم دون التزود بالمعرفة الكافية المؤهلِّة لفعل ذلك. 

نحن مجرد صحفيين، مهمتنا بالحياة أن نُحسن النقل عنكم ـ مفكرين وسياسيين ـ وأن نتدرب على توجيه الأسئلة الصحيحة والمحفّزة لنحصل منكم على أكبر كم من الأجوبة فننقلها للناس.

لكنكم أغرقتمونا في بحر الوهم، وجعلتمونا نعتقد أنفسنا أندادًا. وأوصلتمونا لوقاحة تحليل البنى، واجتراح المفاهيم، وتقديم اقتراحات المشاريع، ونظم الإدارة. 

هل أنا حريصٌ عليكم؟ وعلى حُسن أدائكم في معركتكم معي؟ هل أنا قلق عليكم؟ لا أبدًا. 

كل ما هناك أن كل فكرة جديدة في العالم هي سهم. يتحدد مداه الأقصى بحجم القوة التي تشده للخلف.

وكلما كانت الذراع التي تشد الوتر أقوى وأكثر عنادًا كلما زودت السهم بقوة كافية ستوصله لمسافة أبعد في النهاية. ولذلك أريد لذراعكم أن تكون أقوى في شد وتر التاريخ، ومقاومة انطلاقة السهم الجديد، فلعل ذلك يوصله إلى مدىً أبعد. 

لا أظننا قادرين على حصر أسباب هذا الانحدار، وتوقّع مساراته ومستقبله، والأرجح أنه محصّلة لجملة من المعطيات يمكن تلخيصها جميعًا بكلمة واحدة: الاحتضار

أرى أن اختلال تقاسم الفروض. هو أحد أكبر مشاكلنا في هذا الشرق. وربما بقليل من الشجاعة أستطيع القول إن الديكتاتوريات والفساد والترهل والطغيان وغياب القوانين وانتهاك حقوق الإنسان، هي الأعراض، وليست المرض، هي نتاج لغياب المعرفة، أو لعدم استخدامها، وليست سببًا له.

اقرأ/ي أيضًا: الحياة القديمة مفتاح الحياة الجديدة

في صراع الأفكار الناشب الآن في هذا الشرق، فإن غياب الفلسفة، غياب التفكير الرؤيوي، غياب المستقبليات كعلم مختلط ينطلق من المفهوم، هو ما يمنع النصر وما يمنع الهزيمة، وما الذي نحتاجه في النهاية سوى واحد منهما؟ 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتقام وفرشاةُ الأسنان الواحدة

كيف ننجو هذه المرة؟!