24-أبريل-2022
صادق هدايتش

تصميم للكاتب والبومة

"هل يمكن للغة لا تعرف كلمة الموت أن تكون قابلة للحياة؟"

  • إلياس كانتي

 

تعكس التجربة الإبداعية التي توهج بها ليل طائر الفجيعة عن ارتباك مصائريّ عانى منه الكاتب الإيراني صادق هدايت، حيث لذعة الغياب في كائن تواق للنسيان، فجاءت نصوصه السردية ناطقة برغبته في ضرورة الانسحاب نحو الداخل للاحتفاء بديمومة وقيمة نزال الشكّ بالنسبة للكاتب والفنان.

كتب صادق هدايت روايته "البومة العمياء" كي يقول لصاحب "المسخ" أن عظام جحيمنا مكسوة بلحم واحد

تُعتبر حادثة حرقه لبعض من مؤلفاته محاولة جادة منه لتحقيق أحلام سلفه كافكا الذي اجتهد هدايت في فرسنة العديد من قصصه، ما جعله عرضة لكثير من المضايقات والتنكيل بشخصه بذريعة نقل ثقافة مشبوهة. ويبدو لي أنه كتب البومة العمياء كي يقول لصاحب المسخ أن عظام جحيمنا مكسوة بلحم واحد. إذ لا يحسّ طائر الليل بالعماء إلا بعد أن يرى ولوج وخروج صراصر النور الإنساني اليائس من روحه قبل جسده، آنذاك يُلقي ببصيرته في غياهب اللامتناهي، جامعًا ما بين الرماد والعسل في كف مقطوعة بهيئة منبسطة، تتدلّى قلادة من عنق تمثال أوديب، داعيًا الطير الملعون ليأكل منها.

يذكر الشاعر والروائي الفرنسي ماتياس إينار في روايته "البوصلة" أن "البومة العمياء حلمٌ بالموت. كتابٌ عنيف، ذو إيروسية متوحشة، حيث الزمن هاوية تلفظ محتواها كقيءٍ سامّ. كتابٌ أفيوني".

إذًا نحن أمام ملاك يروي مقاماته بتمزّق عنقاوي، نتيجة ما يعاني من انخساف كارثي في تصاعد نحو ذيل تلك النجمة المشؤومة المبشرة بالخسوف الأبدي الطاعن في سماء الوجود الكافكوي المنفلش داخل كاتب وفنان كصادق هدايت.

ثمة سؤال يستفز زمن الكتابة عن فحوى الدخول في نزال خاسر مع الزمن، وما الجدوى من استنزال الجحيم والاحتفاء به جسديا؟ في ظني أن كاتبا مثل هدايت ليس بعيدًا عن أجواء الانسحاب إلى الجوف الإنساني، هناك حيث الالتجاء إلى مغارة التألّه والالتذاذ بقيمة الكابوس المستقدم من عميق الروح، بيد أن ذلك لا يتحقق من دون امتلاك الكاتب أو الفنان تلك البراءة المدنسة المتمثلة بحيازته روح مستخلصة من امتصاص لغة الغياب الحتمي، فكان يتحرّك بهمة روح الموتى التي إذا ما اتسع ثقبها، فلا شك بأن الكارثة سوف تحلّ بصاحب تلك الروح.

جدير بالذكر أن نلمس العصب الحسّاس ذلك الذي اجتهد هدايت في أن يلمسه بحاسّة محفّزة بالوحشة والمسؤولية، ما جعله يكتب بمذاق عفونة الحياة في روحه المستشاطة نحو أعالي انتكاسة الانسان في بواطنه، فرأى في العزلة والتشرّد محاولة أخيرة في الردّ والمواجهة، هذا ما أفصحت عنه سراديب السرد في البومة العمياء وقصصه عن الجنون، والمخذولين ولاحسي جسد الدهشة بلسان منقوع بلعاب الحشيشة، كأنهم يقومون بطلاء الحياة بأصباغ الموت، لكن كيف استطاع هدايت أن يفصح عن سرّية ذلك الجحيم في رواية من 112 صفحة، أليس في ذلك اللغز جواب نهائي عن نصاعة زمن الموت لديه؟ متى تكون التجربة هي الكتابة نفسها؟ وهل ثمة مجاهيل يسلكها الكاتب كي يبلغ عمق تلك الحفرة الغائرة في الوجود المسماة "الذات"؟ وكيف يتمكن المخيال من التخلص من ذلك النتوء الوجودي، وانقاذه من الاندراس والتلاشي عن أنظار العالم؟

في ظني أن للبومة العمياء كلمة الفصل في ذلك، حيث يقول: "إنني أكتب لظلي فحسب، ظلي الساقط أمام المصباح على الجدار. ينبغي أن أُعرّفه بنفسي". بهذا الاعتراف الجلي يكون قد أعلن دخوله جغرافية اللاقول، أي عالم الصمت النصي، العالم الحافل بكآبته المقدسة المنبثقة من ملكوت حواسه "كل ما هنالك، أنّني كنت قد نظرتها سرًّا وخلسة من ثقب كوة مشؤومة في جدار ملحق غرفتي مثل كلب جائع يتشمم على المزابل، لقد كانت بالنسبة إليّ باقة زهر غضة طازجة ملقاة على مزبلة".

ماتياس إينار: "البومة العمياء حلمٌ بالموت. كتابٌ عنيف، ذو إيروسية متوحشة، حيث الزمن هاوية تلفظ محتواها كقيءٍ سامّ. كتابٌ أفيوني"

بالطبع إنه نوع من الحب المحرم العابر لتصورات الحضور والغياب، الحب الذي استعجل يوكيو ميشيما في الذهاب نحو أفق الكتابة الخالدة المقرونة بضرورة توافر نهاية بيضاء مرة تكون بالقفز من النافذة مثلما فعلها الفيلسوف جيل دولوز، ومرّة بمباركة الحشيش الذي استعان به هدايت في كتابة سيرته روحيًا، عبر رحلة البحث عن نصاعة الموت ليتطهر من قذارة الموت الرتيب، فالانتحار لديه هو انتقال من موت قذر إلى موت نظيف منزه من آثام المتاح، في بحث دائم عن رقة المستحيل، فعند فحص عالمه الإبداعي نرى بأن التجربة هي مصفاة مخيالية بالنسبة لكاتب تمتع بحياة سريالية بشهادة أندريه بريتون، الذي احتفى برواية البومة العمياء وعدّها احدى الروايات الهامة في لائحة الأدب السوريالي الطارد لجنس الرواية.

عند قراءة البومة العمياء نلمس وحشية الختن الدريدي، ونرى بأن صفحات الرواية تنز بانهمار ذلك الدم النازف من بين فخذي مباهج العدم المتأتية من حشرجات المخدر وتدحرجه على لسان الحجر، إذ في تطابق السرد والتجربة نلمس براءة ذلك الفارماكون الذي يعتبره دريدا من الأطعمة المفضلة للملاك المنبوذ النازح من عقل هدايت إلى جسده المتوهج بنشوة ترياق اللذة الموعودة، والواعية للتألّهه المرآوي في لحظة الانتحار وما نسبة مساهمة الأدب في ذهابه نحو مصائر مفتوحة، أأراد أن يفضح عجر الكتابة في بلوغه مآسيه، أم كان يرى في الانتحار هو الرواية التي يتوجب عليه كتابتها بدافع المحو ليغدو من سكان جزيرة فراديس بودلير، وفالتر بنيامين، وتيوفيل غوتييه، ومدمن بوروز، وهانز فالادا، الجزر المحاطة من جميع جهاتها برغائب المجنون الحواسي المؤدي إلى تخفيف وطأة الواقعي، التي هي من وجهة صاحب "أزهار الشرّ" تخفيف لذلك الإرهاق المنبثق من الاحتفاء بـ"رقًّ سماوي صنعه الله ،وهو ذاكرتنا التي لا تُقدّر"؟