18-أبريل-2018

دير القديسة إيليا، العراق

غادرنا الأمس ولم يبق منه إلا أماكن، تظل تبحث عن معانيها، لا برد الشتاء ولا دفء آذار صاغا لها أسماء ولا معاني.

أماكن حائرة في ذاكرتي ورغبات طفولية ما زالت تريد العودة إلى أزقة ضيقة تبحث من مر بها، وذاك الزقاق الضيق الذي يؤدي إلى بيت جدي، يشتاق إلى موطئ أقدامنا، وشجرة التوت الكبيرة وسط الدار والتي كانت منازل آمنة للطيور المهاجرة والحمام، تلك الدالية الكبيرة في البستان، الحبلى بعناقيد العنب، ورائحة الخبز تملأ أرجاء المكان تجذب إليه فاقدي الذاكرة، ليبرهنوا أنهم ما زالوا على قيد النسيان، ولا يخفف عن معاناتهم إلا تلك القطعة من الخبز الساخن، لعله يرد عنهم برد وصقيع الشتاء.

يرتد إلى ذاكرتي ذلك العطار القادم من المجهول يجر عربته المحتوية على شتى أنواع البضائع، أسمع قهقهات الفتيات اللاتي كن يقصدنه لشراء الحلي والأساور، ورنينها ما زال يقصد مسمعي، برغباتي الطفولية ما زلت أريد أن أسابق خطواتي إليه، لعلي أحظى ببعض قطع الحلوى، ولا أنفك أنظر إلى سترته السوداء القديمة، تفوح منه رائحة العطور والبخور، وحذائه الذي لم أر مثله إلا في قصص جارنا الحكواتي. رجل طاعن في السن، لا تكاد الابتسامة تفارق محياه. يداه برز عليها آثار العمل المضني، كنت أنظر إليه مطولًا، وأرى خطوط الزمن قد فعلت فعلتها بهما، بارزة منهما عروق خضراء وزرقاء.

ما زالت ذاكرتي ترتد إلى تلك الجرة الكبيرة والملفوفة بقطعة قماش سميكة، الواضعة في إحدى زوايا فناء الدار، وتكاد تكون في كل أوقاتها مليئة بالماء، كان ولا زال له في ذاكرتي مذاق عذب. تأخذني الذاكرة إلى الموقد الطيني الذي كانت تصنعه جدتي بيديها، تقفز إلى مخيلتي رائحة القمح المسلوق الممزوج باللبن في قدر نحاسي كبير، وكانت جدتي تحركه بصبر إلى أن ينضج.

تبادر إلى ذاكرتي أغاني الحصاد، وأغاني الغربة والفراق، أغاني الكرب والشوق، وأغاني الفرح، وعينا من يغنيها تنظر إلى الأفق الأزرق البعيد، ربما كان يخيل إليه أن الغائب عائد من ذاك الدرب، بقلب وبغصة ألم وأمل، شبيهة بقصص الخيال التي كان يسردها لنا جارنا، ذلك الرجل العجوز المنهك والمقوّس الظهر، حكاياته عن الأبطال الخارقين، أبطال لم أجدهم إلا في قصصه، وأخبار الجن وأفعالهم، وقصص الأشباح وما فعلوه بالإنسان، كانت رغبته شديدة في سردها في عتمة الظلام، وبلحظة ما كنا نحن الأطفال نختبئ خلف أمهاتنا بحثًا عن الأمان، يخيل إلينا أن تلك الأشباح تختبئ في كل أرجاء المنزل، بين لبان السقف أو زوايا الغرفة، ونحرص على أن تبقى أعيننا مفتوحة كي لا يباغتنا الشبح، إلى أن يغالبنا النوم ونستسلم لرغبات الطبيعة.

 في ذاكرتي عجوز حارتنا وغرفتها الصغيرة الوحيدة التي تسكن فيها على مقربة من بيتنا، وسقفه المتهالك على نفسه، كنا نسترق النظر إلى غرفتها من فتحة ثقب الباب الرطب القديم، نبحث عن الجن المختبئ في غرفتها، ونتساءل بملء سذاجتنا: هل تأكل هذه العجوز مع الجن؟ كانت تدرك أننا خلف الباب نسترق النظر إليها، كثيرا ما كانت تدعوننا إلى تناول الطعام معها، والذي لم يكن في الغالب أكثر من صحن برغل مطبوخ على عجالة. كانت دعوتها لنا لتناول الطعام معها غير مجدية، إلا أننا كنا نجلس بالقرب من مدخل الغرفة، ننظر بعيون المراقب لكل شيء في غرفتها وإلى أصغر تفصيل، وفي إحدى زوايا الغرفة كانت تستخدمه كحمام هناك، هناك رأيت ثيابها معلقة ورائحة بخورها تفوح من المكان، وما علق بذاكرتي الحائط المتهالك الأطراف والحقيبة التراثية التي تستخدمه في صولاتها وجولاتها، وهو مكمن أطايب الحلوى والزبيب والتي لم تبخل منه علينا، نضعها في جيوبنا ونخرج منتصرين، نضحك ملء أفواهنا، لم أر في غرفتها صورًا تدل على أن لها أقرباء أو زوجًا قد رحل، فكل ما كنت أراه امرأة غادرها ربيع العمر، وفاضت عليها مر الزمان، وحكايات طفولتها وصباها تسرد لنا، وعيونها زرقاء رقيقة، وحنين وشوق إلى ماضيها.

لم يبق في ذاكرتنا إلا ألوان الطيف والبنفسج، وعناقيد عنب أشهى من حصرم أيامنا. لم يبق إلا أصوات من غادرونا وهمساتهم، ورغبات طفولية تأبى أن تكبر.

 

اقر أ/ي أيضًا:

الخاتمة التي لن تكون

قصيدة مريضة