04-ديسمبر-2020

لوحة لـ نبيل عناني/ فلسطين

عندما كنا صغارًا، صدف أن كانت لنا آذان فيلة، وأخيلة تماسيح، الأمر الذي قادنا لتصديق كل ما يحكى لنا عن النحل ورحلاته الخرافية إلى أودية لا مستنقعات فيها ولا شجر. ذاك أننا ولدنا كما يولد الفطر، على عجلة من صخب السماء، ودون ترتيب مسبق مع طين الأرض التي كنّا نلتصق به كالفراشات.

ذهبت أيام وجاءت أخرى، وأنا أعيش وسط الزوابع الترابية وإشنيات النهر، التي كانت تحيل جسدي النحيل إلى ضفدع مهيض الجناح، لاهم له سوى التخفي من كرات الأطفال الطينية التي كانت تعيده إلى سيرته الأولى ولدًا من ماء وطين.

يا لها من أيام عجائبية تلك التي عشتها في مخيم الشيح ذاك، حيث كنت أمضي أيامي وليالي في وسط أناس، لا يتوقفون عن إعادة سرد حكاية الجنية التي طلعت لصحن الدريبي من بين قصب النهر وهو يستحم داخله، وكيف أغرته بالغناء معها قرب تل التراب الكبير، الذي كان يحيله إلى قطع من طين مشوي، سرعان ما كانت تحوله الأيدي الخبيرة إلى خيم طينية بلا عمد. عن أناس يموتون ولا يرحلون، ذلك أن صورهم المعلقة على الجدران، ظلت تغري المزيد من الرجال المحزونين باللحاق بهم على درب الشهادة المدوخ. عن طفل شقي يظل يحضر لأَمي تفاحًا أصفرَ مقطوفًا عنوة من بساتين أناس غرباء، تقوم بتقشيره ثم بدفعه إلى فمي الجائع لحب، أنا الذي كنت أظن أن العالم لا يعدو عن كونه حقلَ تفاح كبيرًا، وإن لكل طفل فيه حصة متواضعة من الطعام، ظلت تتراءى لي على شكل تفاحة صغيرة.

أنا هو الولد النحيل ذاته، الذي ولد وعاش في وسط الطين والغبار، ولكن قلبه ظل متعلقًا بالحكايات، التي كان لها مفعول السحر على عقله وجسده. فما أن لوح له الولد المغبر بسرد حكاية عن النحل والنجوم التي كان يسافر إليها، بقصد إغراءه بالبقاء معه أطول فترة ممكنة، حتى أقعى بجسده على ضفة النهر كحيوان كسيح. ولكنه سرعان ما هم واقفًا مهددًا ذلك الولد المخادع بالمغادرة، ما لم يتوقف عن التلاعب به وإضاعة الوقت في رمي حجارته الخرقاء على سطح ماء النهر، الذي ظل يناسب بلامبالاة قاتلة تجاه حجارة الولد الأرعن. فجأة توقف ذو الشعر الأملس، رمى بجميع حجارته الخرقاء في بطن النهر دفعة واحدة، ونظر إليّ نظرة المنتصر، الذي نجح باختبار قدرته على إخضاع ولد نحيل أمضى عمره مسكونًا بالحكايات وغواياتها المدوخة. مشى بضع خطوات ثم جلس إلى الحافة المنخفضة تاركًا قدميه الترابيتين تغوصان في الماء الراكد، تنحنح كما يفعل الكبار وأخذ يحكي، قال.

على ذمة والدي أن جدي كان مخاويًا للجن، فهو الوحيد الذي نجح بالسكن في وادي الحمام بالقرب من نبع الغولة. في تلك الأيام تمكن المرحوم من ترويض كل ما وقع في طريقه، ثلاثة أزواج من التيوس البرية القوية الحوافر، زوجًا من الديكة المكسيكية الشرسة الطباع، رضيع ضبع ظل يعتني به حتى كاد أن يجعل منه فردًا من أفراد العائلة، زوجًا من الحجل الملون، تمكن الجد من إقناعة بالتنازل عن نصف البيض الذي تضعه العائلة يوميًا، مقابل الحماية التي سيحظى بها من هجمات الأفاعي السوداء والثعالب ذات الفراء الأحمر، التي قد تغير على مكان إقامته فوق الجدار الشمالي للزريبة. كلبين كسولين اقتصرت مهمتهما الوحيدة على إبقاء حمار المزرعة الحرون ضمن الحدود التي اقتطعها الجدّ لنفسه من الوادي الكبير.

عاد الولد اللعين للتلاعب بي من جديد، فبدلًا من أن ينعطف بالحكاية إلى حدث آخر، أخذ يلوح أمام عيني بالمقلاع المطاطي الذي كان يدسه في جيبه، تارة يتفحص شكل حرفه الخشبي المصنوع من خشب الزيتون، وتارة يقوم بشد الرقعة الجلدية كما لو أنه يرغب بالتأكد من متانتها، ولما كان يشعر بغضبي المكبوت من حركاته الخرقاء، يقول لي لا تقلق، سنعود للحكاية من جديد ريثما أصطاد ذلك العصفور اللعين، هناك ألا تراه؟ فأنهض من مكاني محتجًا: يالك من دجال أيها الخبيث! اسمع إما أن تكمل لي الحكاية اللعينة تلك، وإما أن تدعني أنصرف إلى البيت. فيتركني أسير بضع خطوات، ومن ثم يأخذ بملاحقتي، حالفًا لي أغلظ الايمان بأنه لن يعود لألاعيبه الماكرة تلك من جديد، فأصدقه مضطرًا عله يعاود الحكي فأظفر بحكاية جديدة، لم يسبقني بالتعرف عليها أحدًا آخر من أولاد حارتي.

على مقربة من البيت، هناك على الشجرة الكبيرة المطلة على الوادي، سكنت ملكة نحل حكيمة، تعلق بقلبها آلاف العاملات اللواتي لا هم لهن سوى خدمتها. كانت الملكة من النحل النادر المسمى بالمعازي، حيث الحراشف السميكة تغطي كافة أنحاء جسدها بما فيها أقدامها السريعة الحركة، مستثنية من ذلك فمها الشرس الذي كان له القدرة على شفط رحيق أي نوع من أنواع الزهور بما فيها أزهار الأشواك التي بحجم خرم إبرة. فلما رآني أحدق في عينيه نظرة اللامصدق، ردَّ علي: ليس تمامًا كحجم خرم الإبرة، لنقل إنها بحجم زهرة برية صغيرة، كالسوسن مثلًا. فلما شعر بالاطمئنان تابع ما كان بدأه عن مملكة النحل.

عرف شعب النحل هذا بصفات عجيبة غريبة، فهو حين يخرج لشم رحيق الأزهار لا يقبل على النباتات التي تعيش على سفوح التلال أو في بطون الوديان، بل كان يصر على قطع مسافات بعيدة تقدر بالمسافة الواصلة بين هنا وذاك الجبل الأبيض. هناك حيث ينمو نبات الزلوع الأصفر الذهبي على سفوح جبل الشيخ التي تكاد قمته تعانق عنان السماء. ثم يشير بيده اليمنى، جبل الشيخ ذاك ألا تراه؟ إياك أن تقول لي: أنك لا تبصره! فحين أجيبه: إني أراه أيها الدجّال، هيا أكمل لقد مللت من كثرة ألاعيبك السخيفة، أكمل بالله عليك. فيتخذ لنفسه وضعية الشخص الرصين ليسرد. كانت أسراب النحل العاملة تطير وتطير من زلوعة إلى أختها حتى تتعب، وحين يغريها هواء الجبل العليل بالنعاس تفرد جناحيها تحت رأسها لتنام، ثم في المساء تعود أدراجها إلى مسكنها فوق الشجرة العتيقة. وعلى الرغم أني لم أصدق حديثه عن النحل الذي ينام، ففقد آثرت الصمت والاكتفاء بترك فمي نصف مفتوحًا، عله ينبهت إلى مبالغته المشينة.

في موعد القطاف كان جدي يصعد إلى مسكن النحل يقطع القفير، يوزع جزءًا منه على جنيات الوادي ويخزن الباقي في جرار من فخار صنعت خصيصًا لهذا الغرض. البارحة فتح أبي على الإفطار قطرميزًا معتقًا من عسلات الجد، أكمل الولد المتكاسل حديثه.

دلق في فمه بعض قطرات، وسمح لي أن أمد يدي إلى بعض منها، يا إلهي كم كان لذيذًا! ما أن شعر ذلك المغبر برغبتي الجارفة في تذوق أو شم ذلك العسل الساحر، حتى سارع إلى سد الأبواب في وجهي قائلًا: ويا ليتني لم أتذوق ذلك العسل أبدًا! فما أن أحط برأسي على المخدة كل يوم، حتى أشعر بطعمه اللذيذ تحت لساني. فيا ويلي مما يحدث لي! فهل تصدق أن قلت لك بأنني أظل أتقلب في فراشي، ومعدتي اللعينة تفرك علي، حتى يغلبني النعاس وأنا على هذه الحالة المثيرة للشفقة؟

ما إن انتهى ذلك الشقي من سرد حكايته عن العسل، حتى سارعت للفرار من جحيم مبالغاته الفادحة، ولا شيء يشغل بالي سوى الحصول على قطرات من ذلك العسل المعلق بين السماء والأرض، المحمي بآلاف من الأفواه المفترسة، المستعدة بالفتك بكل من تسول له نفسه بالمغامرة للحصول على قطرة عسل واحدة من محصولها الوفير.

عندما أويتُ لفراشي، لم أكن أتوقع أن تكون روحي وجوارحي على موعد مع عسلات الجد، صعدت إلى الشجرة المسحورة، أمسكت بالفرع الكبير الذاهب إلى بيت الملكة حيث تنام على سريرها الشمعي، فزلت قدمي لتبدأ رحلة تأرجحي بين غصن إلى آخر، وصولًا إلى ارتطام الجرة الفخارية، التي كنت أحملها على ظهري، في وسط رأسي. في الأسفل أطبق كل شيء علي، إلى الدرجة التي لم أعد أعرف فيها، الجهة أوقل الجهات التي كان يتسرب منها الألم إلى جسدي. أهي من جهة الرأس المرتطم بحواف الجذع الناتئة؟ أم من جهة الساق المتكورة أسفل جسدي المرضوض؟ ماذا يا ربي عن مئات أو آلاف لسعات النحل، التي كانت عاملاته المجدات يهاجمنني بغل منقطع النظير؟ أكاد أجزم أنه لم ينج فيّ من تلك المذبحة الشائنة سوى لساني، الذي ظل يصوصئ في فمي مثل دجاجة تفشل مرارًا وتكرارًا في إقناع مربيها بتأجيل نحرها لساعة ما بعد إفطار الصباح.

وحدهما عيناي من ظلتا توصلاني بالعالم الخارجي، معلنتين عن حضور ولد أشعث يقف على بعد ياردة من جسدي المتهالك، فيما يده النحيلة تمتد بين الفينة والأخرى إلى العسل المتساقط من بيت الملكة، يدسها في فمه، ثم ليخرجها بفرح، وهو يصيح بغبطة، عسل معازي، معازي، أقسم بالله، أقسم بروح جدي، بروح بقرتنا التي في الزريبة، إنه ملكية خاصة بِنَا نحن آل المشهداوي. فابتعد عن وادينا المبارك أيها الشقي، ألم أحذرك؟ ألم أخبرك، أن مغامرة الحصول على عسل الجد، ليست بالسهولة التي مر بها أخوك في مغامرة حصوله على التفاح الأصفر الشهي؟ فيا لكم من عائلة من المغامرين الوقحين، الذين لم يعرفوا بحياتهم اللعينة حرامًا من حلال!

 

اقرأ/ي أيضًا:

بصركِ زئبقٌ، نظرةٌ، نظرة؛ متّ ذات هيام

تُخرج من حقيبتها ظلًا