04-سبتمبر-2019

من فتوات مصر (الترا صوت)

"أهو ده تاريخك يا ولد.. أهو دول فتوات البلد 

بدروا بذور المجدعة.. من غير مياصة وشخلعة" - الشاعر شفيق سلوم.

ذكرهم نجيب محفوظ في جُل كتاباته عن القاهرة وأحيائها الشعبية، خاصة في ملحمته "الحرافيش" وثلاثيته الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" وكذا في مجموعته "فتوة العطوف".

احتلت قصص الفتوات مساحات واسعة في الأدب المصري، خاصة لدى نجيب محفوظ، وكذا في السينما المصرية التي صورت تناقضاتهم

واحتلت قصصهم مساحات في السينما المصرية، فكان فيلم "التوت والنبوت" مثالًا جليًا على ذلك، وغيره من الأفلام التي رصدت المعركة الخالدة بين الشر والخير، كما تبدو في ظاهرها، أو بين الحرافيش والسلطة في إحدى تجليات صورها.

اقرأ/ي أيضًا: الفتوات في السينما المصرية "وحوار بالفيديو مع الناقدة الفنية ناهد صلاح"

من هو الفتوة؟

ارتبط المسمى بالقوة والبطش، والجمع بين بعض المُثل التي قد تبدو متناقضة في السياق الرسمي، وإن كانت مفهومة على مستوى شعبي؛ فالفتوة قد يكون بلطجي، لكنه خيّر، أو له أعمالٌ في الخير.

يعود تاريخ شخصية الفتوة إلى عصر ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وامتد على طول التاريخ الإسلامي. وقد أخذت "الفتوة" صورةً مكتملة الملامح في مصر.

الفتوات في مصر
ثلاثة من فتوات مصر في العقود الأولى من القرن الـ20

ومن فتوات الجزيرة العربية عمرو بن معد يكرب، والذي، كأي فتوة، حامت حول قوته الأساطير، ومن بينها أنه أحب فتاة تدعى فاطمة، فتقدم لطلب يدها، فأبلغته أنه لن يقدرعلى مهرها، فسألها باستهانة عنه، فقالت: "لقد طلبت عبلة 40 ناقة بيضاء من الربع الخالي، أمّا أنا فلا أطلب شيئًا غير موجود، فكبد الأسد موصوف لأبي".

و في ليلة دعاها للصيد، وعندما اقترب من الجبل اضطربت فرسه، فعرف أن ثمة سبع، فهجم عليه بخنجره وقتل السبع، ومَهَر فاطمة بكبده!

دويلات داخل الدولة

في أواخر القرن الـ19، قُسمت مصر إلى مناطق نفوذ تحت إمرة رجال اتخذوا فوتهم وبطشهم واستهانتهم بالقانون الضعيف، وسيلة لإقامة وتأسيس ديكتاتوريات صغيرة، هم رؤساؤها؛ فكان في حي الناصرية بالقاهرة، ثلاث فتوات يتنازعون السيطرة عليه هم أبو طاجن وأحمد منصور وحسن الأسود.

خرجت هذه النماذج من رحم ضعف الدولة المصرية آنذاك، فاكتسبت شيئًا من روح الحكم فيها، فمثلت سلطة بسطوتها داخل السلطة، تحتكم إلى العرف الذي تسنّه، وتُخضع مناطق نفوذها لهواها.

والعديد من الفتوات آنذاك كان يستقوي بالاستعمار وممثليه على أهل حيه، مثلما يُروى عن فتوات سوق السلاح في واقعة وثقها الكاتب سيد صديق عبدالفتاح في كتابه عن "تاريخ فتوات مصر"، وقت أن تدخل قنصل فرنسا بنفسه في إحدى مشاجرات الفتوات، حين قتل أحد الفتوات -كان وثيق العلاقة بالقنصلية الفرنسية- أحد خصومه، فحال القنصل الفرنسي دون حبسه، بالتواطؤ مع الطب الشرعي.

القبة الفداوية.. مكان اجتماع الفتوات

قصة القبة الفداوية هي قصة فتوات مصر. بناها الأمير يشبك بن مهدي، أحد أمراء الشركس المماليك. وتقع القبة الآن في العباسية بوسط القاهرة.

القبة، وهي بناء بسيط مربع الشكل يعلوه قبة كبيرة، سيطر عليها الفتوات لاحقًا، ومن ذلك جاء اسمها "قبة الفداوية". وكان الفتوات يعقدون اجتماعاتهم فيها، فيفرضون الحماية على حيّ ما، أو يتفقون على معركة ما.

قبة الفداوية

ولم تستطع الحكومات المتعاقبة كسر شوكتهم، وقد بدا أن سطوتهم الداخلية، تفوق سطوة الحكام. حتى جاء محمد علي، فطردهم من القبة، وشردهم في الأنحاء. 

نساء فتوات

لم تكن الفتوة حكرًا على الرجال، فهناك عزيزة الفحلة، التي يروى أنها استطاعت وحدها أن توقف موكب الخديوي عباس لتوصل له مظلمتها من مأمور القسم. 

وهناك أيضًا جليلة، وكانت فتوة في الجيزة، خلال فترة أواخر الخمسينات. وكانت لها الكلمة الأولى والأخيرة بين الناس، رغم كونها امرأة بسيطة، تفترش الشارع للبيع، فكان الناس يقصدونها للفصل بينهم، ولم تكن تتوانى عن إيقاع العقاب على المعتدي.

فتوات مصر

وكانت هناك أيضًا زكية، فتوة حي المناصرة وسوق الخضار. ذاع صيت زكية في عام 1915. وجاء وصفها في كتاب "تاريخ فتوات مصر": "امرأة غليظة الجسم، واسعة العينين، مفتولة العضلات، قصيرة القامة، كبيرة الرأس، شعثاء، مكفهرة الطلعة، تروح وتغدو في الشوارع والحارات، مرهوبة الجانب، يسلم عليها الجميع رجالًا و نساءً، يقدمون لها الضرائب من العربجية والبياعيت على اختلاف طبقاتهم، خوفًا من بطشها وقوتها".

من الفتوة للبلطجة

بمرور الوقت، خفت ظاهرة الفتوة في المناطق والأحياء والحارات المصرية، واستبدلت بنماذج أخرى؛ فلا يزال هناك في القليل من المناطق، خاصة في الريف وصعيد مصر "كبير الحتة" الذي يُرجع إليه للفصل في الخلافات بحكم العرف. 

كما سادت أيضًا، بدلًا عن الفتوات، البلطجية، الذين يستقوون على الناس بالبطش والاعتداء. وفي بعض الفترات كان للبلطجية علاقات وثيقة ببعض أصحاب النفوذ الذين يستخدمونهم لتخليص الأعمال المشبوهة.

 بمرور الوقت، خفت ظاهرة الفتوة في المناطق والأحياء والحارات المصرية، واستبدلت بنماذج أخرى، أبرزها البلطجية

وفي ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 وما أعقبها من أحداث، لعب البلطجية أدوارًا محورية، ورصدت العديد من التقارير والتحقيقات الصحفية، استخدام البلطجية من بعض الجهات لتنفيذ مهام "غير رسمية"، وبرزت أسماء بعضهم بشكل ملحوظ، مثل صبري نخنوخ.

وكما قال أحد آخر فتوات مصر، فتوة حارة الحسينية بمنطقة الجمالية في مصر القديمة: "الفتوة أدب والبلطجة قلة أدب".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كان يا ما كان.. حكايات شعبية ضد القهر والاستبداد

سوق الجمعة في مصر.. "ياما في الجراب يا حاوي"