05-أبريل-2016

جيرارد ريختر/ ألمانيا

الزحمة قاتلة وكأن الناس استيقظوا من سباتهم اليوم، وكادي تعبة، تقف في الباص بين زحمة العيون الوقحة.. مترصدة مؤخرة تنفك عن المقعد لتجلس.. ولا أحد يفزع لها. أثناء عودتها من العمل، انتابتها حالة إدمان المنزل، لم تعد قادرة على الاستمرار أكثر، أو الابتسام في وجوه الأصدقاء.. انهزمت. تريد سريرها الآن مع كوب النسكافيه الدافئ ورائحة شموعها.. وإلا ستنفجر باكية.

وفي محاولة لتجاهل إدمانها والصمود نصف ساعة أخرى، بدأت تسترجع لقاءها الأخير مع مراد: "إن قلت إنني مهتم بكِ ستعتقدين أنني أبالغ، لكنها حشرية أكثر، ربما حماس للحديث معكِ، أنا الذي نادرًا ما أرغب في الكلام، سأقول سرًا "لفتني ذوقك في الثياب.. وجهك العابس دومًا.. ملامحك اللاتينية القوية والتي تترك انطباعًا لمن يلقاك، أنكِ مغرورة".

"أهو مدح أم ذم" سؤال كان يراودها في كل مرة يتهمها فيها بأنها فتاة صعبة، سألته "ماذا تعني"، ليتهمها أيضًا بأنها تنتقي كلماتها بعناية في الأحاديث، ويزيد تهمة أخرى تتمثل بأنها حذرة في التعامل مع الأشخاص، ولا تسمح لأي شخص التوغل في أعماقها.

ترد "حسنًا ربما أصبت في نقطة واحدة من اتهاماتك لي، لن أقول لك أية واحدة هي".

"لا تشغلي رأسك بكلامي.. إنها مجرد انطباعات، أو ربما قد يكون من سؤالك المفضل "ماذا تعني"، مستدركًا أنه يشعر بإنجاز عظيم عندما يتحدث معها.

دعاها لتشاركه موسيقاه، "أتحبين العود"... ممم حسنًا لا أعرف، ربما أحبه، وأضافت "أعشق كل أنواع الموسيقى، الشعبية منها والنخبوية.. الأجنبية والعربية.. القديمة والحديثة وحتى الموسيقى الصوفية، وأغاني الردح، إلا المواويل لست من هواتها، حركات صوتية غبية".

وضع أسطوانة أغاني سيد درويش "المعاد إحياؤها" كما يقال بأصوات شابة في جهاز الفونوغراف الذي ورثه عن جده.. "توقف، لا أحب غادة شبير.. ليس لديها قبول عندي، لم تدخل قلبي، صوتها لم يخترقني.. شكلها مزعج، لا يليق بها أن تغني، لا أحب صوتها رغم أنه جميل!".

أدار الأسطوانة لصوت آخر يصدح شد الحزام على وسطك، "مممممم، حسنًا، كنت أحب ريما خشيش، لكنني مللتها مؤخرًا.. في كل الجلسات يقتحم صوتها مساماتي، صوت رفيع فيه الكثير من الحنان والعاطفة.. إنها بليدة بما يكفي، لئلا أسمعها".

حسناً، وما رأيك بـ ريم البنا، "لا أريد أن أبدو قاسية، إلا أنني لم أتعاطف معها يومًا، لا داعي لأن نجامل أحدًا وندعي ما ليس فيه بدافع الشفقة، صوتها بشع".

قاطعها "حسنًا، الخيار لك ماذا تريدين أن تسمعي؟"، ردت بسهولة، "لا أعرف.. مخرج إحدى الإذاعات التي عملت بها كان يسألني هذا السؤال صباح كل يوم، ولا أجد ردًا، ربما هو السؤال الأصعب في حياتي".

وتضيف في بالي أغنية نسيت لمن، أتعرف لدي عجز في ذاكرتي، أشبهه بثقب أسود، يبتلع كل الأسماء والتواريخ والأرقام.. لا أحفظ أسماء الشوارع والمغنيين والماركات والشعراء والكتب حتى تلك التي قرأتها". ليرد ضاحكًا: "وتسألينني ما معنى فتاة صعبة؟!".

يشتت انتباهها صراخ طفلة تجلس في مؤخرة الباص، ورجل يقف أمامها، وقد تسمرت عيناه على أصابع يديها غير المرتبة. تنزل من الباص، تشعل سيجارة تنفث من خلالها كل الأحداث المرهقة التي تحملتها.. تركض إلى بيتها، حيث تستطيع أن تتحرر من سلطة ملابسها وجواربها وربطة شعرها والوجوه التي حملتها منذ الصباح.

تمشي مسرعة إليه.. لتزيل الثقل الذي ابتلعها وأجهد روحها أثناء محاولاتها لتكون لطيفة، ولتقتل الضحكات التي ضحكتها بلا سبب أو على أشياء تافهة، إنها في المكان الأجمل "بيتها".

تهرب إلى سريرها.. تنام عارية، مكانها الدافئ الآمن الوحيد، بعيدًا عن الحروب وشبكات الاتجار بالبشر والعبودية، بعيدًا عن القضايا المصيرية وجحيم البشر ونقاشاتهم الساذجة التي لا تهم أحدًا ولا تغير شيئًا حول العلمانية والدولة الإسلامية والأكراد والعرب والغارقين المنسيين والمتسولين.. هناك ترتاح قليلًا من الكوكب المجنون.. تنام كطفلة همها الأكبر من سيطفئ الضوء لها.

اقرأ/ي أيضًا:

قاتلة رياض الصالح الحسين

مشاةً نلتقي.. مشاةً نفترق