22-أغسطس-2018

مشهد من مدينة فاس

فاس تمسك الزمن بين يديها وتضعه تحت شمسها الحارة فيصير صلبًا  جامدًا لا يتحرك، تقف كرجل هرم شاخص أمام الريح، ناظر إلى أفق المدينة المتفجر بالخيبة والحكايات. لا تزال فاس عجوزًا تلعن عنفوان شبابها فتبصق مرارة السواك الذي تبيعه للمارة أمام الاضرحة والسادات. بناتها قطط متشردة تبحث عن اللحم المفروم وأرجل الدجاج، وما جاد به عربيد المدينة في لحظة تعاطف أو وعي ما بأن كل من في فاس قطط متشردة لا أكثر ولا أقل.

فاس تمسك الزمن بين يديها وتضعه تحت شمسها الحارة فيصير صلبًا  جامدًا لا يتحرك

أن تعيش في فاس يعني أن تمر بدرب بوطويل في فاس الجديدة تجاه المدينة القديمة، مرورًا بحدائق لالة مينة "جنان السبيل"، وأن تقرأ كتاب الوجوه حتى تصبح خبيرًا في فن الخط والتخطيط، فتجد على الوجوه الفتية خطوطًا مصممةً على العبور حتى آخر الوجه، وفي تصميمها هذا ثبت الرعب في أنفس الناظرين، لا تحدق كثيرًا وأنت تتجول في بوتويل ففي الخطوط رغبة مريضة في التجوال بين الوجوه. فأما خطوط الزمن فهي خجولة تحفرها الشمس وتنقشها على الوجوه، شمس فاس يد حرفيّ لا تكل ولا تمل من الحفر والنقش على "طناجر" و"صينيات" الأفراح والأقراح .

اقرأ/ي أيضًا: "فاس".. من مدينة العلم إلى عاصمة الجريمة في المغرب!

أن تعيش في فاس يعني أن تمر بدروب "الطالعتين" الكبيرة والصغير وتسمع لكنة غريبة، فمخارج الحروف انفجار دائم للكلمات التي تأتي في صيغة تصغير، قطط هجينة هي الكلمات، بنات زنا بين دارجة اليهود الفاسيين المصطنعة وتلعثمات النصارى الهاربين من أندلس الهزائم، وترسبات البداوة التي تنخر عظام العجوز. تسبب هذه الكلمات المنفجرة عسرًا في الفهم فتسمع على أنها نواح سكارى يكاد المعنى فيها يغيب لتحل مكانه رداءة النطق كرمز حاضر على القوة والوحشية التي لا ترحم في قانون الغاب أحد.

أن تزور فاس يعني أن تستحضر مباءة عز الدين التازي، في مشوارك من ساحة النجارين، مرورًا بمولاي إدريس والقرويين، وتستخلص أن القطط التي تكثر من اللحم تصاب بالسعر، وأن فاس قطة كبيرة تتغذى على لحوم مجانينها ومجاذيبها، وأن البركات الشهوانية ليست حكرًا على سيدي بوغالب، بل هي حاضرة بعنف في كل مكان، فلا تحضر البركات إلا بحالة ضغط كافية في ساعة الظهيرة، وسط سخط العجزة والسياح وقهقهات أصحاب الحوانيت الضيقة وحنق البغال والحمير، تلكم إذن وصفة الحضور والنفور.

مدينة فاس أشبه بقطة كبيرة تتغذى على لحوم مجانينها ومجاذيبها

اقرأ/ي أيضًا: فاس.. سيكولوجيا المعمار وطبائع التطرف

أن تخرج فاس يعني أن تنهي جولتك في سوق الحناء، وكأنك تنهي لحظة غرامية عنيفة بأن تقبل جيد المعشوقة فتشتم عطور "العكار الفاس"، ويسكرك للحظة حضور الحناء والغسول بين خصلات شعرها وشيء من "الشبة" و"صرغينة والمسكة الحرة" في الهواء وسط مواءات القطط السوداء المخصية، فتخرج كمن حمل به عند ملك الجان مطرودًا مذلولًا وسكرانَ من قبح وجمال ما تذوقته، مصممًا على العودة بلا سبب مرة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عدسات تبحث عن مدن لا مرئية

فاس.. حاضرة التصوف الإسلامي