13-فبراير-2018

للسياقة في المسافات الطّويلة الصحراوية نكهة خاصة (دي أغوستيني/Getty)

ترتبط الحافلة في المخيال الشّعبي الجزائري العام بكونها قاهرة المسافات البعيدة. لذلك فقد استطاعت أن تدخل إلى كثير من الأغاني والأعمال الفنّية بصفتها مقرّبة البعيد، ودالّةً على التحدّي واستمرار المسيرة. من ذلك مسرحية "الحافلة تسير" للمخرج عزّ الدّين مجّوبي المغتال في شباط/ فبراير سنة 1995، وقد أعاد إخراجها وفق رؤية جديدة طارق ناصري، فباتت علامة مسرحية يعرفها الجميع في الجزائر.

ترتبط الحافلة في المخيال الشعبي الجزائري العام بكونها قاهرة المسافات البعيدة ودالّة على التحدي واستمرار المسيرة

هل كانت الحافلة ستحظى بالصّورة نفسها في الجزائر لولا سلطة الجغرافيا؟ إذ تتجاوز المسافة بين أقصى الشّمال وأقصى الجنوب 3000 كيلومترًا؟ ويبلغ طول الطّريق السيّار الرّابط بين أقصى الغرب وأقصى الشّرق 1712 كيلومترًا، وطريق الوحدة الأفريقية 2344 كيلومترًا، ليكون مجموع الطرق البرّية بما في ذلك السّكّة الحديدية في البلاد 404 كلم. فما النّفسية والذهنية والطّقوس التي تميّز سائق المسافات الطويلة عن غيره؟

اقرأ/ي أيضًا: الحافلة في الجزائر.. عالم من ثلاثين مقعدًا

التحق فاتح السوفي، 1972، بقيادة الحافلات المتخصّصة في المسافات الطّويلة عام 1992. أي بالموازاة مع انطلاق شرارة العنف والإرهاب في الجزائر، "إعجابًا بوالدي الذي امتهن حرفة السّياقة مباشرةً بعد إطلاق سراحه من السّجون الفرنسية عام 1962 بسبب نشاطه الثّوري، إذ كان قادرًا على أن يستفيد من الامتيازات التي منحتها حكومة الاستقلال للمشاركين في ثورة التّحرير، لكنّه فضّل أن يعتمد على نفسه في التكفّل بأسرته".

من الطّبيعي أنّني خفت، يقول محدّث "الترا صوت"، فقد كانت الطرق البرّية الفضاء الأوّل الذي تتخذ منه الجماعات المسلّحة منصّةً لممارسة القتل والذّبح وتجريد النّاس من أموالهم ومركباتهم، فقد كانت بحاجة إلى تمويل نفسها وإثبات وجودها، لكنّ أبي كان يبدّد مخاوفي بالقول إنه لابدّ من رجال يضحّون من أجل أن يبقى الطّريق الجزائري سالكًا". يضيف: "قلت لنفسي مرّةً: هل كنت سأتأخّر عن صفوف ثورة التّحرير لو ولدت قبلها؟ إذًا فلأعتبر وضعي هذا شطرًا من الثّورة، ولأمت شهيدًا".

كانت ولا تزال مدينة وادي سوف، 600 كيلومترًا إلى الجنوب الشّرقي من الجزائر العاصمة، منطلق الرّحلات التي يخوضها فاتح السّوفي إلى مدن كثيرة. مثل "جانت" البعيدة بـ1700 كلم وأدرار البعيدة بـ1300 كلم ووهران البعيدة بـ1000 كلم، "وكنت أصادف يوميًا رؤوسًا مقطوعة وأشلاء متناثرة، وأخبارًا بحوادث وتهديدات بحرق كل مركبة تعبر المفصل الفلانيّ، وكنت أواجه ذلك كلّه بمضاعفة سرعة حافلتي، كموقف منّي في التّعامل مع الوضع". يشرح موقفه: "كنت أقول إنّه إذا حدث أن أصيبت حافلتي فلتصب وهي تسير، وإذا أصبت أنا فلأصب وأنا أسوق".    

جلست بالقرب منه في الطريق الصّحراوي الرّابط بين وادي سوف وأدرار، ووجدت صعوبة في دفعه إلى التّوغل في استحضار تلك المرحلة، "لأنني مشغول عنها بأن أعيش واقعي الجديد، حيث استقرّ الوضع الأمني، فلا أصادف في طريقي إلا الحيوانات الضّالّة تقريبًا، ويمكنني أن أوقف حافلتي ليتنفّس ركّابي في أيّ بقعة أشاء في أعماق الصّحراء".

فاتح السوفي (الترا صوت)

اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون لسائق الأجرة: "نثق بك"

فاتح السوفي، سائق حافلات المسافات الطويلة في الجزائر: كانت الطرق البرية الفضاء الأول للإرهاب في تسعينيات القرن الماضي لكني اعتبرت الأمر تحديًا

يقارن فاتح السّوفي بين سلوك الرّكّاب في فترة تسعينيات القرن العشرين وركّاب اليوم، فيشير إلى أن الصّمت كان مهيمنًا على الحافلة الجزائرية خلال الفترة الأولى، "فقد كان الخوف متحكّمًا في العلاقات الإنسانية. من يدريك أن محدّثك في الحافلة إرهابي أو رجل أمن أو عميل لأحدهما؟ أمّا اليوم فإنّني أضطرّ إلى إسكاتهم كلّما وردتني مكالمة حتى أسمع بشكل جيّد".

يقف فاتح السّوفي عند مدخل الحافلة مرحبًا بالركّاب، ومساعدًا النساء والعجزة في الصّعود وترتيب أغراضهم. وما إن تنطلق الحافلة حتى يصبح اسمه متداولًا على الألسنة، فكأنّهم يعرفونه منذ سنوات، "أنا ضدّ فلسفة التكشير التي يعتقد قطاع واسع من السّائقين أنها تحفظ هيبتهم، إذ لا بدّ من زرع الابتسامة والضّحكة والمرح، فالسفر يتعلّق بمئات الكيلومترات، ولا بدّ من قهر المسافة بالحكاية".

يتعامل فاتح السّوفي مع الطريق باعتباره حكاية، فهو يجدّدها وتجدّده يوميًا، وينطلق فيها أو يطلبها من الرّكاب، بمجرّد انطلاق الحافلة، التي لا تتوقف إلا للأكل والاستراحة، "أرى أنّ منع الحديث مع السّائق يجب أن يقتصر على المدن، ذلك أن الطريق فيها مليء بالمارّة والمراكب بكلّ ما يترتّب عن ذلك من مفاجآت، أمّا الطريق الطويل المفتوح على الخلاء كهذا الذي نخوض، فإن الحكي ينعش السّائق ويعصمه من النّوم".

سألته عن طبيعة الزّبائن، فقال إن الكثرة تتكوّن من الشباب العاملين في الشّركات البترولية والثكنات العسكرية للجيش الجزائري، "وهو ما يجعل الاحترام طاغيًا على ما يسود في الحافلة من سلوكات، بما شجّع العائلة الجزائرية على أن تسمح للمرأة بالسّفر معنا مثلًا"، وكان عدد المسافرات لوحدهنّ سبعَ نساء، في طريق يتمّ الوصول فيه بعد 18 ساعةً، نصفها ليلًا.

يقول فاتح السّوفي إنه يستعين على الطريق بمرافقة بديل له، يقوم مقامه كلّما شعر بالتّعب، وإنه يشتغل أربعة أيام ويستريح ثلاثة في الأسبوع، "أولادي الأربعة صغار، وهم محتاجون إلى حضوري في حياتهم، وقد حدث مرات كثيرة أن فوّتُّ عرسًا أو جنازة أو عيدًا أو واجبًا عائليًا بسبب هذه المهنة". سألته: "هل أنت نادم على خيارك هذا يا فاتح؟"، فصمت برهة وفق ريتم ليل الصّحراء وقال: "المهمّ أنّ الحافلة تسير".  

 

اقرأ/ي أيضًا:

التوك توك.. ما لا يمكن التخلي عنه في مصر

نساء على متن حافلة المجتمع البطيئة