24-يناير-2017

جان لوك غودار في شبابه

أجرى جيفري ماكناب هذا الحوار النادر مع جان لوك غودار، المخرج الفرنسي الشهير، في 29 نيسان/أبريل 2005، لصالح صحيفة "الغارديان"، على خلفية عرض فيلمه "موسيقانا". وقد ظهر في هذا الفيلم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، متحدثًا عن الشعر والصراع العربي-الإسرائيلي. تأتي ترجمة هذا الحوار ضمن مجموعة حوارات نادرة مع فنانين وكتاب، سوف ينشر "ألترا صوت" ترجماتها تباعًا.


إنها ما بعد الظهيرة، والجو دافئ، وجان لوك غودار يجلس قرابة مَسبح فرنسي، مدخنًا السيغار، ومتكلِّمًا عن كرة القدم. فيلمه الجديد، موسيقانا (Notre Musique)، حظي توًّا بعرضه العالمي الأوَّل. في منتصفِه، ثمَّة إشارة إلى المباراة الشهيرة التي جرت على ملعب ويمبلي، في تشرين الثاني/نوفمبر 1953، عندما هزَمت هنغاريا (الملقَّب منتخبها بـ"المجريون الرائعون") إنجلترا، التي يقود فريقها بيلي رايت، ستة أهداف إلى ثلاثة. مُسترجعًا المباراة، يشرع غودار، الذي كان مشجِّعًا مخلصًا لكرة القدم في صغره، في تَعْداد أسماء اللاعبين الهنغاريين واحدًا تلو الآخر. "فيما عدا حارس المرمى، أتذكَّرُهم جميعًا"، يقول. يأتي على رأسهم بوشكاش ("العدَّاء الرائد")، ولاعب متوسط الميدان الأيمن بوزسيك ("النائب")، وساندور ("الجناح المجنون")، وكوتشيش ("الرأس الذهبية"). أما ستانلي ماثيوز، يضيف، فهو اللاعب الإنغليزي الوحيد الذي ما زال عالقًا في ذهنه.

متناوبًا الفكاهة والعبارات الرنانة والمشاهد المحيرة، يعبِّر فيلم "موسيقانا" تمامًا عن غودار المتأخِّر

يصفُ غودار أوَّل مرة شاهد فيها المنتخب الهنغاري، الذي أحدث ثورةً في عالم كرة القدم، بأنها "اكتشافٌ يُضاهي فن الرسم الحديث". معظم اللاعبين الهنغاريين، يشير، كانوا من هونفيد، "نادي الجيش". والبلاد وقتها كانت تحت الاحتلال السوفيتي. مع ذلك، قاربَ بوشكاش (وهو ضابط جيش) وزملاؤه اللعبة بأسلوب طليق ومدهش الحرية يتناقض مع النظام الصارم للحياة اليومية وراء "الستار الحديدي". الفريق الوحيد الذي كان قريبًا من هنغاريا في فترة بوشكاش، يضيف غودار، أياكس أمستردام في فترة كرويف. "لقد لعبَ الجميعُ في الهجوم والدفاع - كان الأمر شبيهًا بالجاز الحر".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الحالمون".. الثورية الحالمة وسذاجة المثالية

في كانون الأول/ديسمبر، وصل غودار عامه الرابع والسبعين. بينما تذوي حياته المهنية، يظلُّ مرحًا واستفزازيًا وعنيدًا كما هي حاله دائمًا. بطريقة ما، ليس مستغربًا أن حماسه للنقاش حول بوشكاش وستانلي ماثيوز يٌقارع حماسه لتأمُّل فيلمه الجديد. هو مولعٌ بالمعارضة، ويمتلك قدرةً سديدةً على تخطئة النقَّاد والجماهير على حد سواء. في مؤتمر صحافي لـ "موسيقانا"، أزعج غودار الصحافيين عندما دعا متحدِّثًا باسم اتحاد الممثلين والفنيين الفرنسيين إلى المنصَّة. ثمَّ جلس في صمت بينما يُفصِّل ويُسهِب المتحدِّثُ في مماحكاته المعادية للحكومة الفرنسية.

متناوبًا الفكاهة والعبارات الرنانة والمشاهد المحيرة، يعبِّر "موسيقانا" تمامًا عن غودار المتأخِّر: جزءٌ مقالي، وآخرٌ شعريّ التأمُّل. الفيلم، مقسَّمًا إلى ثلاثة أجزاء، يُفتَتح بتسلسل سريع للقطات مجمَّعة من وثائقيات وأفلام حرب هوليوودية. مستمرًا لحوالي سبع دقائق، يأخذ هذا القسم اسم "الجحيم (Hell)". وفيه، يستخدم غودار اقتباسًا يعود إلى فيلسوف القرن الثامن عشر البارون دو مونتسكيو من أجل تأطير الصور: "بعد الطوفان العظيم، خرج الرجال من الأرض وشرعوا في إبادة بعضهم بعضًا". إلى جانب مشاهد المعارك، هناك لقطات لبطاريق وقرود. "وجدتُ صورًا لجنود أمريكيين يحملون أسلحتهم ويسيرون في نهر ما، واعتقدتُ أنه من الجيد وصلها بصور القرود"، يوضِّح بمرح.

ثم يأتي قسم "المطهر (Purgatory)" [من تطهير الخطايا - المترجم]، حيث يعود غودار إلى سراييفو، المدينة التي ظهرت أيضًا في فيلم سابق له، "موزارت للأبد" (Forever Mozart) (1996). يتجوَّل في شوارع المدينة، ويواجه صحافيين وأكاديميين، ويناقش السياسة والتاريخ. نسمع تعليقات جانبية حول كيف أن التاريخ يكتبه المنتصرون. هناك ممثلون يلعبون شخصيات خيالية وأناس حقيقيون (غودار من بينهم) يمثلون أنفسهم. ثمة صور شبه متطابقة لفلسطينيين وإسرائيليين على نفس شاطئ البحر، لكن السياقات مختلفة تمامًا. أحدها هو النصر، والآخر هو الهزيمة. نسمع اقتباسًا يعود إلى مالرو: "لا يُطلِق الإنسانيون ثورات، بل يفتحوا مكتبات". نرى أيضًا الجسر الشهير في مدينة موستار، الذي مثَّل دماره في عام 1993 أشد حلقات حرب البوسنة سوادًا. وقد أعيد الآن بناء الجسر، وسط حديث كثير عن انتصار الأمل على البربرية.

"شعرت أن سراييفو هي المكان الأمثل لتصوير الفيلم الذي أردتُ تصويره. إنها الصورة المثالية للمطهر"، يقول غودار. الجزء الأخير يصوِّر الجنة، وإن بطريقة ساخرة للغاية، يكون فيها الفردوس (Paradise) مكانًا مورِقًا داخل غابة، تحت حراسة قوات المارينز.

استسلم غودار إلى حقيقة أن أفلامه الآن لا تُشاهد على نطاق واسع، ولا تمتلك زخمًا كبيرًا في شباك التذاكر

قد يكون غودار اسمًا مشهورًا، لكن يبدو أنه استسلم إلى حقيقة أن أفلامه الآن لا تُشاهد على نطاق واسع، ولا تمتلك زخمًا كبيرًا في شباك التذاكر إلا نادرًا. السمعة المتداولة عنه أن منتجيه المنتظمين، روث فالدبرغر وآلان ساردي، يمكنهما جمع التمويلات لمشاريعه الجديدة بسهولة، لكن مسيرته الأخيرة ليست مربحة تجاريًا. من أجل توضيح هذه النقطة، يروي قصة سفره مؤخرًا من مونتريال إلى نيويورك. عند وصوله، سأله موظف الجمارك: "سيد غودار: ماذا أتى بك إلى هنا؟ العمل أم المتعة؟" أشار غودار إلى الخيار الأوَّل. سأل الضابط عن عمله. "أفلام فاشلة"، أجاب غودار.

اقرأ/ي أيضًا: ترجمة أن تكون فلسطينيًا

ثمة شيء متناقض بشأن موقفه من السينما. يشعر الآن على ما يبدو باليأس من القدرة على إعادة اختراع نفسه في المدى المتوسط أو امتلاك أي نوع من التأثير الاجتماعي."انتهى الأمر"، يتنهَّد. "مضى وقتٌ ربما أمكن فيه للسينما أن تحسِّن المجتمع، لكن ذلك لم يعد موجودًا الآن".

مع ذلك، ما زال يدرس السينما ويجرِّب بكل حيوية. يرفض بشراسة فيلم مايكل مور "فهرنهايت 9/11 (Fahrenheit 9/11)" وسلسلة الأفلام الأخيرة التي تهاجم العولمة ومروِّجي الحروب والإمبريالية الثقافية الأمريكية. "يقولون إنهم يهاجمون بوش، لكنهم لا يفعلون ذلك بمصطلحات الفيلم، وإنما بالكلمات". ينعت مور (بإنجليزيته الفريدة) بأنه "محض مراسل هوليوودي"، ويقارنه سلبًا مع صانع وثائقيات سينما فيريتيه العظيم فريدريك وايزمان. بل يُلمِح إلى أن عمل مور ربما يكون في واقع الأمر قد ساعد بوش. "ليس كافيًا أن تكون ضد أدولف هتلر. وإذا أنت صنعت فيلمًا فظيعًا، فأنت لست ضده". (ليس واضحًا بأي حال ما إذا كان قد رأى فعلًا "فهرنهايت 9/11").

وغودار لا يترك نفسه لإغراء كتائب المعجبين الذين يتخذونه مرجعًا في أفلامهم أو يسمون شركاتهم على أسماء أفلامه. كوينتن تارانتينو، على سبيل المثال، يسمي شركته "A Band Apart"، تقديرًا لكلاسيكية غودار "Bande à Part" (1964). "يقول إنه معجب بي، لكن هذا ليس صحيحًا"، يفكِّر غودار، ثم يقدِّم ملاحظة ملغزة عن تعذيب وإذلال السجناء على أيدي الحراس الأمريكيين في العراق. "ما لا يقال أبدًا عن تارانتينو إن تلك السجون التي تظهر لنا صورها، والتي كان التعذيب يجري فيها، سميت "reservoir dogs". والاسم في اعتقادي مناسب جدًا" [الإشارة هنا إلى فيلم تارانتينو الذي يحمل نفس الاسم - المترجم] .

بالعودة إلى الخمسينيات، عندما كان يكتب لمجلة "كايي دو سينما"، عُدَّ غودار بين النقاد الأكثر استفزازًا في عصره. "السينما هي نيكولاس راي"، كتب. ومن إبداعاته أيضًا: "يمكنك وصف فيلم "هيروشيما حبيبتي (Hiroshima Mon Amour)" على أنه فوكنر مضافًا إلى سترافينسكي". كما يعرف كل طالب فيلم اقتباسات من قبيل "كل ما تحتاجه لصناعة فيلم فتاة وبندقية" و"[الفوتوغرافيا حقيقة (truth) والسينما حقيقة 24 مرة في الثانية".

ما زال بارعًا في سك عبارات مصقولة من سطر واحد، لكن عباراته تميل حاليًا إلى أن تكتسي بمسحة كئيبة. أسألُه عمَّا إذا كان يجد إلى الآن متعةً في أفلام نيكولاس راي فيعترف أنه لم يعد يشاهدها. "من غير الممكن أن ترى الأفلام. يمكنك أن تراها فقط على "دي في دي"، وهو أمر لا يروقني البتة، لأن الشاشة صغيرة جدًا".

جان لوك غودار، الذي يعيش في سويسرا، نادرًا ما يرى أية أفلام

وهو يبدو متحررًا أيضًا من وهم المهرجانات السينمائية. "في البداية آمنت بمهرجان كان، لكنه صار إلى دعاية محضة. يأتي الناس إليه فقط للإعلان عن أفلامهم، وليس من أجل رسالة معينة. ميزة المهرجان أنك، في ثلاثة أيام، تحصل على تغطية صحافية كبيرة تروِّج للفيلم بقية العام".

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 10 أفلام لهذا العام حسب مجلة دفاتر الفرنسية

غودار، الذي يعيش في سويسرا، نادرًا ما يرى أية أفلام، ما لم يكن يحضِّر لوثائقي مثل "تاريخ السينما (Histoire du Cinéma)". يدَّعي أنه يقضي وقت فراغه في مشاهدة الرياضة وقراءة روايات جاك لندن القديمة. كذلك لم يعد على اتصال بالعديد من زملائه القدامى الذين عمل معهم فترة "الموجة الجديدة (Nouvelle Vague)". يقول: "شأن الوضع مع أية أسرة. ترى أقاربك ثم لا تراهم. فجأة، يختفون ولا تعرف ما الذي أصبحوا عليه. قبل عشر سنوات، شعرت بالحنين إلى تلك الفترة، ولكن لم يعاودني ذلك مرةً أخرى".

لا، لم ير فيلم "الحالمون (The Dreamers)" لبيرتولوتشي، الذي يعيد خلق الأيام المسكرة لباريس خلال عام 1968 ويقدِّم تحيةً خاصةً لفيلمه، "Band à Part". ألا يتملكه الفضول نحو فيلم قريب جدًا من تجربته الخاصَّة؟ "تلك حياة مضت"، كل ما يقوله. يراوغ أية أسئلة حول مشاريعه المستقبلية، مازحًا أن كل ما يهمه الآن "لعب التنس ومقابلة محللي النفساني".

على الرغم من سمعة غودار باعتباره متحفظًا، وشخصيته "البروسبيروية"، فإنه ضيف كريم على محاوِره بشكل مدهش. لا يعني ذلك أن غودار يستسيغ إمعان الصحافيين أو الكتَّاب في حياته الخاصَّة. على العكس من ذلك، لقد رفض السيرة المتحمسة التي كتبها كولين مكابي، "غودار: بورتريه لفنان في السبعين". "لم أكن سعيدًا بذلك. طلبتُ منه ألا يفعل، لكني لا أستطيع منع أي شخص من الكتابة"، يقول غودار. "هو لا يعرف شيئًا عني. ربما يكون على علم ببعض أفلامي... كذلك كنت ممتنًا له أن ساعدني على القيام ببعض الأمور، لكن هذا كل ما في الأمر. لا تعني الصداقة أنه ثمة تفويض أخلاقي بدخول الحياة الخاصَّة لشخص آخر".

يمزح جان لوك غودار بأن كل ما يهمه الآن هو "لعب التنس ومقابلة محللي النفساني"

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Collateral Beauty": كيف تغيرنا تجارب الفقد؟

لم يكن تعامل غودار مع شركائه السينمائيين شهمًا دائمًا. يذكر المرء خطاب تروفو الشهير الذي اقترح أنه إذا قدَّم غودار فيلم سيرة ذاتية عن نفسه، فإن العنوان المناسب قد يكون "Once a Shit, Always a Shit". ثم هناك "خطاب إلى جين (Letter to Jane)"، الوثائقي الذي صنعه مع جان بيير غورين عام 1972 عن جين فوندا. وفيه، كان تفكيك صورة لفوندا في مدينة هانوي، على مدار 52 دقيقة، بروباغندا قاسية واستهزائية. "لم يكن فيلمًا جيدًا جدًا"، يعترف غودار، لكنه يضيف أنه كان "محاولة لتحليل عمل جين فوندا السياسي"، وليس هجومًا شخصيًا.

يصف المخرج فيلمه الجديد بالمتفائل، وأنه يحمل رسالة أساسية مفادها أن "المصالحة ممكنة" – لكنه لم يستطع إخفاء شعوره بالهول إزاء الوضع الراهن للمهنة التي اختارها. في واحد من أكثر المشاهد المؤثرة في "موسيقانا"، نسمع صوتًا يسأله إذا كانت الكاميرات الرقمية الصغيرة تستطيع إنقاذ السينما. تقترب الكاميرا من وجه غودار: يعبس ولا يقول شيئًا على الإطلاق. الاستنتاج واضح: لقد خُسِرت المعركة بالفعل. مع انتهاء اجتماعنا، طرحت السؤال مرة أخرى. لكن لا جواب.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Chinese Coffee" بين الكتابة والصداقة

فيلم "أنا أولغا هيبناروڤا".. خيارات داعشية