19-نوفمبر-2021

غسان زقطان وديوانه سيرة بالفحم

ألترا صوت – فريق التحرير

صدرت مجموعة "سيرة بالفحم" للشاعر غسان زقطان في 2003 عن "المؤسسة العرية للدراسات"، وجاء على غلافها الأخير كلمة كتبها الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب قال فيها: "في هذه المجموعة الشعرية الجديدة، يبدو واضحًا نزوع الشاعر نحو رصد ذاته الظلية الغائبة، لا بالعودة إلى الذكريات والأحداث، بل بالعودة إلى تلك "الخيمياء" السحرية التي أحدثت الأحداث والذكريات، وقبعت متخفية وراءها. لقد كان الشاعر الفلسطيني في الستينات والسبعينات، منهمكًا في لملمة سيرة مرتبكة للذات الظلية الجمعية، لكنه تحمل، فيما بعد، إلى التحديق في عتمته الشخصية، والتجسس على حدباته وتجاعيده وحفر انهدامه، بلغة تتأمل أكثر مما تقول، وتضيء على الذات أكثر مما تضيء على الأشياء. هكذا تساهم هذه المجموعة، بشكل فعلي، في تعميق الانعطافة الشعرية التي عمل عليها شعراء عرب كثيرون، مثلما فعل محمود درويش في مجموعته المهمة "لماذا تركت الحصان وحيدًا"، وتشكّل إضافة مهمة تجربة غسان زقطان الشعرية".

كتب جهاد الترك في جريدة المستقبل اللبنانية قارئًا المجموعة فترة صدورها: " هذا اللون الفحمي المستسلم لعتمته، يشكل فضاء مثاليًا لثلاثين نصًا شعريًا، ينتقل بينها غسان زقطان بحريّة الغائب عن نفسه، التائه عن تفاصيلها المملة، الهارب من رائحة القشور الى نور الروح. وفي هذا، توازن دقيق بين طرفي المعادلة التي تحكم النصوص على نحو شفاف، هما: الحاجة الملحّة لدى الشاعر الى الانسحاب الكلي مما يعتبره ظلالًا فقط في العالم الموضوعي، الى حيث تنتفي الظلال لتظهر الأشياء والمشاعر والرؤى على حقيقتها الأولى وكأنها ولدت لتوّها".

من يقرأ "الخروج من دمشق الشام إلى أين"، قصيدتنا المختارة هنا، دون الانتباه إلى تاريخ نشرها سيشعر أنها مكتوبة عن زمن دمشق الحالي، ففيها من اليأس ما يجعلها تبدو مكتوبة عن تراجيديا زماننا، وحديث الخروج من المدينة في القصيدة يشتبك حتمًا مع تدفق اللاجئين من سوريا في العقد الأخير. لأجل هذا كله تتخذ شكل مرثية تمزج التذكر بالمرارة، والمغادرة بالخسارة.


تركنا دمشقَ على حالِها

محصّنةً بالمجازِ ومشغولةً بالبرابرةِ القادمين

على خيلِهم مِن حصونِ الجنوب.

 

ثلاثٌ وخمسونَ مملكةً تحتَ حكمِ المجوسْ

ثلاثٌ وخمسونَ بريّة في الشمالِ

مُوثّقةٌ في صكوكِ الجباةِ

ومحسوبةٌ حبّةً حبّةً في حسابِ المكوسْ.

 

ثلاثٌ وخمسونَ مقتلةً في السهولِ..

سيؤتى بها

كي تُسمّى برسمِ الأميرْ

ويرفعها شاعرٌ في كتابِ الزمانْ

 

ثلاثٌ وخمسونَ جارية

في الطريقِ إلى أصفهانْ!

 

تركنا دمشقَ التي أطعمتْ خيلَنا في الفتوحِ

محايدةً مثلَ جبٍّ قديم

ومحكومةً من قبور المماليك في برِّ مصر

"وقد نغتدي"..

لا نطيع الكلامَ

ولا نُشترى بالبلاغةِ مثلَ الطواويس!

 

وكان لنا في مجالِسها أخوةٌ في اللِسان

عصاةٌ وتجّارُ إبلٍ

رواةٌ وقرّاء.. أصحابُ قولٍ

وطرّاقُ معنى وسمّارُ حانْ

.. عصبةٌ من سوادِ العراقِ وأحياءِ بغدادَ

يلقونَ حجَّتهم للكلامِ

كما يطلقُ القانصُ الصقرَ خلفَ الطرائدِ

بيضًا وسمرًا

وفيهم من الكردِ والزنجِ والتركمانْ

 

على بابِها ودّعتنا الجيادُ

وودعنا الجندُّ

قال لنا القاطنونَ بها، أهلُها،

ما يقالُ على البابِ للذاهبينْ.

 

رددنا لها "قاسيونَ" بأوصافه

مثلما ينبغي للأماناتِ إذ تُستردُّ.

 

تركنا لها نهرها جاريًا، وهو نهرٌ صغيرٌ،

وأسماءَ جاراتها

والبغالَ التي حملت صيفَها كاملًا للثغورْ.

 

تركنا لها "بابَ توما"

وقبرَ ابن أيوبَ

والشيخَ..

والخانَ للقاصدينَ المعرّي..

كانت توابيتُ جيشِ الكنانةِ

تخرجُ من بابها في طريقِ الجنوبْ

 

وكان التقاةُ المملونَ في بهوِها يقرأونَ

 

وكان السكارى يعيدونَ رسمَ الحواشي ويبكونَ

تحتَ الحجارةِ حيثُ الكتاب..

 

كانَ الغلاةُ من الباطنيةِ يلقونَ أولادَهم من حوافِ الجبال

 

وكان الدعاة على عجل يعبرونَ المسالكَ

من سهلِ حوران..

 

كان الشمالُ بعيدًا ومحتشدًا بالرجال.

 

وكان الدهاةُ يسدّونَ أروقةَ الحكمِ

بالحيلِ المنتقاةِ من الشعرِ والسُّنةِ الظاهرة..

 

تركنا النساءَ الغريباتِ في "باب توما"

وظلّت علينا عطورٌ

أضاءت لنا سبلًا للذهابْ.

 

تركنا الفتاةَ ممددّةً في سريرٍ عريض 

ووقتًا يفيضُ على الجانبينِ

وبابَ الزقاقِ

الذي دونَ بابْ.

 

تركنا دمشقَ على حالِها

مصطفاةً ومأهولةً

في التباسِ المجازْ.

 

على مهلها تجمعُ الجوزَ

من شجرٍ عارضٍ..

حيث ينتظرُ الذاهبونَ إلى "أين"

حافلةً في قطارِ الحجازْ!

 

اقرأ/ي أيضًا:

سهراب سبهري: في روضة الورد

عقيل علي: مؤكّدًا