في ظل جنون القتل والدمار الذي تشهده غزة، لم تعد الكارثة تقتصر على الجانب الإنساني البحت لمعاناة سكان القطاع، بل تخطّت ذلك لتكشف عجزًا أخلاقيًا عالميًا، وصمتًا يهدد القيم التي طالما تغنّت بها المجتمعات الغربية من عدالة، وحرية، وحقوق إنسان.
ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأزمات لم تعد خافية. نفس الأصوات التي تدّعي الوقوف إلى جانب المظلومين تلوذ بالصمت، أو تبرّر، حين يكون المجرم حليفًا أو ينتمي إلى "المعسكر الصحيح". مشاهد الدماء في غزة تُقابل بصمت رسمي، وإنكار إعلامي، وتبريرات واهية من منابر تدّعي الحياد والموضوعية.
إن الحديث المتكرر عن القيم الغربية، التي وُلدت من رحم الثورات ضد الظلم والطغيان، أصبح اليوم موضع شك وتساؤل. فكيف يمكن لعالم يدّعي التحضّر أن يتجاهل معاناة شعب بأكمله؟ كيف يمكن لمبادئ مثل العدالة أن تُعلَّق إذا تعلق الأمر بفلسطين؟
ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأزمات لم تعد خافية. نفس الأصوات التي تدّعي الوقوف إلى جانب المظلومين تلوذ بالصمت، أو تبرّر، حين يكون المجرم حليفًا أو ينتمي إلى "المعسكر الصحيح"
وصلت إلى السويد في عام 2013، وكانت أولى المفاهيم التي كان معلمو اللغة يرددونها حينها هي حرية التعبير والقدرة على قول ما نريد دون خوف. ولأجل سخرية القدر، كان أستاذ والدي المشرف على دورة الاندماج في ذلك الوقت قد رسم دائرة كبيرة كتب فيها أسماء جنسيات عديدة، وشرح للقادمين الجدد حينها أن المجتمع السويدي يتكون أساسًا من تعدد الثقافات.
وبالعودة إلى الحاضر، عندما عادت إسرائيل إلى حربها المزعومة لاستعادة "الرهائن"، عاد الإعلام الغربي ليكرر ما يسمى "صورة الفيل في الغرفة"، حيث كانوا شاهدين على تأكيد المجزرة، إذ لم يدينوا، أو على الأقل لم يحددوا من هو "قاتل" المائتي طفل وأكثر في غزة منذ آذار/مارس الماضي.
تأكيدًا لما أقول، كتبت إحدى الصحف السويدية عنوانًا للخبر السابق جاء فيه: 'مئتي طفل توفوا في غزة منذ آذار/مارس الماضي'. وفي جميع لغات العالم، ومنها السويدية، هناك فرق واضح بين "قُتِل" و"مات"، وهذا ما يهدد عدالة وأسلوب تطبيق حرية التعبير "البيضاء" التي تحاول الهروب من إدانة الجاني. وكأن الأطفال أو السكان العزل الذين قُتلوا في غزة لا ينتمون إلى الإنسانية أو لا يعيشون على كوكب الأرض. نجد أن العناوين فضفاضة ولا تتبع أهم قواعد الصحافة الحرة، وهو الموضوعية وإعلاء كلمة الحق.
هذا من جانب وعلى الجانب الآخر، لم تذخر الشرطة السويدية أدنى فرصة لتفريق معسكرات الطلاب التي كانت تعج بالطاقات الجمة التي لم تكن سوى قطعة أخرى من قطع لوحة القمع الأوروبية في وجه المعسكر الداعم لفلسطين. وصولًا لما نحن بصدده الآن وهو لماذا تكون فلسطين محور نقاشٍ حول حدودها وحول شرعية نضالها؟ فإن لم تخني الذاكرة فقد كانت الحكومات الأوروبية من أوائل الداعمين والمشرعين لنضال أوكرانيا في وجه رغبة روسيا الاحتلالية التي ما انفكت تحاول توسيع أراضيها.
هنا، لا أضعنا نحن الفلسطينيون في مواجهة أوكرانيا "البيضاء" لا سمح الله، بيد أن أطفال غزة بأحلامهم الصغيرة التي لا تتعدى نهارًا عاديًا خاليًا من الموت والقتل لهم الحق أيضًا في النضال ولا يحق للغرب أن يملي عليهم شيئًا.
وفيما يتعلق بالسويد، البلد الذي ضمن حرياتنا لفترة طويلة، فإن حرب غزة الأخيرة قد كشفت عن حالة خطيرة جدًا من التواطؤ غير المفهوم مع إسرائيل، مع العلم أن السويديين كعائلة مالكة يكرهون الإسرائيليين وذلك بسبب اغتيال الكونت برنادوت في بدايات النكبة.
ومن هنا حريٍّ بالسويدي كإنسان ونحن كفلسطينيين مغتربين يتابعون مسلخ شعبهم أن نفعل شيئًا غير الانصياع للاكتئاب والعزلة. وما هذه الكلمات سوى محاولة لتحويل لغتي إلى صرخة تقول: نحن شعب يحب الحياة، رغم كل ما يحاصرنا من موت.
إن السويد كدولة عاشت فصولًا متناقضة ضمن تاريخ قضية فلسطين، فهي بدأت مع الكونت برنادوت الذي اغتالته العصابات الصهيونية، وصولًا لأولف بالمه وآني ليند اللذان شكلا علامة فارقة في تعريف المجتمع الغربي على نضالنا كفلسطينيين. فاعترفت حكومة بالمه بمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، والتقى بالمه برئيسها ياسر عرفات في حينه.
أما الحكومات اليمينية فكانت متقلبة المزاج تبعًا لحالتها السياسية. فمثلًا، إبان الانتفاضة الثانية، خرجت مظاهرات في السويد تندّد بالوقاحة الصهيونية وتدنيسها للمقدسات. ولسخرية القدر، شاركت بعض الأحزاب اليمينية، وعلى رأسها حزب ديمقراطيو السويد، في هذه المظاهرات، لا تضامنًا مع القضية، بل بفعل أصولهم النازية وعدائهم التاريخي لليهود.
وهذا ما أوصلنا لما نحن عليه اليوم، حيث إن حكومة اليمين المتطرف الحالية لم تستطع قمع الحريات وذلك بسبب الشكل العام للدستور السويدي الذي يحمي "حرية التعبير" إلى حد ما لكنه لم يمنع الشرطة من اعتقال الطلاب أو المتظاهرين مثلما حدث في مخيم الطلاب الخاص بمدينتي لوند وغوتنبرغ وبشكل خاص إبان مهرجان الأغنية الأوروبية "Eurovision" الذي شهد مشاركة دولة الاحتلال.
وقد شهدت مدينة مالمو مشهدًا قمعيًا أعاد للأذهان صورًا من أحلك فصول أوروبا، حين كانت المعسكرات تُبنى لكتم الأصوات لا لحمايتها. وهذا ما يعيدنا نحو اللحظة الراهنة، حيث إنه بعد 18 شهرًا من حرب الإبادة الجارية، لا يزال الصحفي السويدي يكتب عن الإبادة بصيغة المبني للمجهول، كما لو أن أحدًا لا يقتل، ولا يُقتل، وكأن الدم يسيل من تلقاء نفسه وكأن الأشلاء تتساقط من السماء كمطر صيفي على أرضٍ صحراوية. ومثله مثل الصليب الأحمر الذي نعى كوادره العاملة في غزة ببيان لا يتجاوز رثاء قطة دهستها سيارة في طريق ريفي مهجور.
إن السويد كدولة عاشت فصولًا متناقضة ضمن تاريخ قضية فلسطين، فهي بدأت مع الكونت برنادوت الذي اغتالته العصابات الصهيونية، وصولًا لأولف بالمه وآني ليند اللذان شكلا علامة فارقة في تعريف المجتمع الغربي على نضالنا كفلسطينيين
ومن هنا فإن الحرب التي يقودها المعسكر الصهيوني ضد كل ما هو فلسطينيّ من الحجر والشجر إلى الصور والبشر، قد ألقت برحاها في أحضان الأوروبيين الذين مازالوا يتجرعون عقدة الهولوكوست لتبرير الدعم غير المبرر لإسرائيل. فهم حتى لحظة هذا المقال لم يستطيعوا أن يتخذوا موقفًا حازمًا وواضحًا تجاه التجاوزات وجرائم الحرب التي ترتكب كل لحظة تحت حجة "البحث عن الرهائن".
وفي لمحة تعكس عمق التناقض في دولة الاحتلال، لم يعد ذوو الرهائن يكترثون بآليات الحرب أو نهاياتها، بل جلّ ما يهمهم اليوم هو سلامة أحبّائهم. وهذا بالضبط ما نريده نحن، نحن الذين لا نطلب تعاطفًا مشروطًا، ولا نرضى بتعاطف كاذب يُمنح على استحياء. بل نريد أن يصل ما تبقى من صوتنا للعالم.
فعلى الجانب الآخر لم يتوانى جيش الاحتلال في تجريب كل أنواع التعذيب والتنكيل والإخفاء القسري لكل ساكني القطاع من أطفال وعاملي إغاثة إلى نساء لا تبحث سوى عن وجبة العشاء تحت الإبادة.
فهل يستيقظ الكائن الأبيض غدًا، لا ليتابع أخبار الحرب، بل ليسأل نفسه: أيّ إنسان بقي فيه، حين أصبحت الصورة أمامه بلونٍ لا يشبهه؟