بينما تتسارع وطأة الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، تتكشف ملامح مرحلة جديدة أكثر خطورة مما شهده الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي منذ عقود. فالصراع لم يعد مجرد حملة عسكرية محدودة تستهدف "القضاء على حماس" أو "تحرير الرهائن"، بل تحول إلى مشروع استراتيجي أوسع يسعى إلى إعادة تشكيل قطاع غزة بالكامل، عبر تفتيت جغرافي متعمد، وتغيير ديموغرافي محتمل، وتدمير ممنهج للبنية الإدارية والاجتماعية.
تسير العمليات الإسرائيلية، بدعم أميركي غير مشروط، نحو فرض وقائع ميدانية دائمة تهدف إلى تقويض أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وسط عجز دولي عن وقف هذا المسار رغم تصاعد الإدانات اللفظية. في المقابل، يدفع أكثر من مليونَي فلسطيني ثمن هذا التصعيد عبر نزوح قسري وتجويع جماعي وانهيار الخدمات الأساسية، بما ينذر بكارثة إنسانية وإقليمية متفاقمة.
تسير العمليات الإسرائيلية، بدعم أميركي غير مشروط، نحو فرض وقائع ميدانية دائمة تهدف إلى تقويض أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة
تظهر التحركات العسكرية الأخيرة، مقرونة بالحصار الكامل، إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على تكريس السيطرة الإسرائيلية المباشرة على قطاع غزة، ودفع سكانه إما إلى الرحيل القسري أو إلى العيش في جيوب محاصرة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية وتخضع لرقابة أمنية إسرائيلية مشددة.
في هذا السياق، يقدم تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" تحليلًا معمقًا للأهداف الإسرائيلية التي تجاوزت العمليات العسكرية التقليدية، لتشمل إعادة هندسة الواقع السياسي والجغرافي لغزة بما يخدم مشروعًا استيطانيًا متطرفًا يهدف إلى تصفية ما تبقى من الحقوق الوطنية الفلسطينية وترسيخ واقع احتلال طويل الأمد.
🎥 في المنتدى السنوي لفلسطين.. المفكر العربي @AzmiBishara يقدم قراءة موجزة في الحرب الإسرائيلية على غزة والمفاوضات ووقف إطلاق النار.@ArabCenter_ar pic.twitter.com/59bqtVn0As
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 25, 2025
تفتيت غزة.. استراتيجية التفكيك المنهجي
لم تقتصر الاستراتيجية الإسرائيلية في غزة على التصعيد العسكري، بل تحولت إلى مشروع منهجي لإعادة هندسة الخريطة الجغرافية والديموغرافية للقطاع. وفقًا لما وثقه تقرير "مجموعة الأزمات الدولية"، تمضي قوات الاحتلال قدمًا في مخطط يستهدف شطر القطاع إلى "مناطق معزولة"، عبر توسيع "المناطق العازلة" شرقيًا وغربيًا، وتحويل المدن الكبرى مثل رفح وخانيونس إلى مناطق خالية بفعل القصف المكثف وأوامر الإخلاء الجماعي.
أحكم الجيش الإسرائيلي سيطرته على محور "نتساريم"، ما أدى إلى قطع التواصل البري بين شمال غزة وجنوبها، فيما تتعرض رفح لعملية تدمير منهجي تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على المعبر الحدودي مع مصر وعزل القطاع بالكامل عن أي امتداد خارجي مستقل.
في سياق الحملة الإسرائيلية المستمرة، تشير مجموعة الأزمات الدولية إلى أن الوضع الإنساني في قطاع غزة دخل مرحلة الانهيار الكامل، نتيجة المزج بين التصعيد العسكري والحصار الخانق.
فقد أدت العمليات الميدانية إلى نزوح مئات الآلاف قسرًا نحو شريط ساحلي ضيق لا تتوفر فيه أدنى مقومات الحياة. ووفق تقديرات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية، أصبحت 69% من مساحة القطاع مناطق عسكرية مغلقة أو محظورة على السكان المدنيين، ما ينذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ غزة.
كارثة إنسانية مفتوحة
في موازاة ذلك، فرضت إسرائيل منذ الأول من آذار/مارس 2025 حصارًا مطلقًا على القطاع، مُنعت بموجبه جميع شحنات المساعدات الإنسانية من الدخول، مما أدى إلى تفاقم الأزمة بشكل متسارع.
ووفق تقرير مجموعة الأزمات، لم يعد الحصار مجرد أداة ضغط على حماس، بل تحوّل إلى استراتيجية ممنهجة لتفكيك النسيج المجتمعي الفلسطيني، ودفع السكان المنهكين قسرًا نحو خيار "الهجرة الطوعية" المفروضة بحكم الجوع واليأس.
🎥 نازحو #غزة يعيشون معاناة الشتاء للعام الثاني على التوالي، بعيدًا عن منازلهم، مع استمرار الحرب الإسرائيلية منذ 14شهرًا.@palestineultra pic.twitter.com/IevLOvb2z8
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) November 28, 2024
تُظهر تقارير الإغاثة أن أسعار المواد الغذائية الأساسية ارتفعت إلى عشرة أضعاف وأكثر، وأُجبرت عشرات المخابز والمطابخ المجتمعية على الإغلاق بسبب نفاد الإمدادات. نصف سكان غزة يعتمدون اليوم على وجبة واحدة يوميًا، ويضطر نحو مليون شخص للعيش على أقل من ستة لترات من المياه يوميًا لكل احتياجاتهم من الشرب والغسيل والطبخ. ومع تفاقم نقص الأدوية والخدمات الطبية، ارتفعت معدلات سوء التغذية والوفيات، خصوصًا بين الأطفال والمرضى وكبار السن.
في هذا المشهد المأساوي، ترسم مجموعة الأزمات الدولية صورة قاتمة: الضربات الإسرائيلية لم تقتصر على المواقع العسكرية، بل استهدفت بشكل متكرر خيام اللاجئين، المستشفيات، المدارس ومخيمات النازحين، فيما سُجّلت 23 ضربة مباشرة على مناطق يفترض أنها "آمنة"، و36 غارة وثّق فيها مقتل نساء وأطفال فقط.
وقد ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى أكثر من 50 ألف شخص منذ بدء الحرب، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، إضافة إلى آلاف الضحايا العالقين تحت الأنقاض، وآلاف آخرين ممن قضوا بسبب غياب العلاج. ووسط استمرار الحصار والهجمات المكثفة، تحذر المنظمات الإنسانية من أن غزة مهددة بأن تتحول إلى مقبرة جماعية مفتوحة، في ظل صمت دولي مشين وعجز إقليمي عن وقف الكارثة.
ورقة الرهائن: ذريعة للتصعيد
رغم تكرار التصريحات الإسرائيلية بأن العمليات العسكرية تهدف إلى تحرير الرهائن المحتجزين لدى حماس، إلا أن تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" يكشف تناقض هذه الادعاءات مع الواقع. فمعظم عمليات تحرير الرهائن تمت عبر المفاوضات خلال فترات الهدنة، وليس عبر القوة العسكرية.
ومنذ استئناف القصف الإسرائيلي العنيف، توقفت كل عمليات التبادل، بل وتزايدت أعداد الرهائن الذين قُتلوا تحت النيران الإسرائيلية أو بسبب الانهيار الإنساني.
تشير المجموعة إلى أن التصعيد العسكري لا يضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن، بل على العكس يزيد من تشددها، خصوصًا في ظل سعي الحركة إلى ربط مصير الرهائن باتفاق شامل يشمل وقف إطلاق النار ورفع الحصار وإعادة إعمار القطاع.
وفي المقابل، يتصاعد الغضب الداخلي في إسرائيل، مع احتجاجات عائلات الرهائن، وارتفاع معدلات الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية الاحتياطية، في مؤشر على تصدعات متزايدة داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
أهداف أبعد من الحرب على حماس
لا تقف أهداف إسرائيل عند حدود تحجيم حركة حماس، بل كما يكشف التقرير، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تدمير القدرات العسكرية والإدارية للحركة، وإجبار قادتها على مغادرة غزة، بالإضافة إلى إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للقطاع.
وفق التقرير، تعمل إسرائيل على تقليص عدد السكان الفلسطينيين عبر وسائل التهجير القسري، الذي يُسوق تحت شعار زائف هو "الهجرة الطوعية"، مستفيدة من حالة التجويع والانهيار الإنساني لدفع السكان إلى مغادرة القطاع.
📌 سلّطت الصحفية والمحررة في صحيفة "هآرتس"، حنين مجادلة، الضوء على صمت الإسرائيليين، حتى أولئك الذين يعارضون الحرب، عن الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين الفلسطينيين في #غزة.
📌 اعتبرت مجادلة أن إسرائيل ارتكبت مؤخرًا "أكبر مجزرة أطفال في تاريخها"، حيث قُتل في يوم واحد نحو 200 طفل… pic.twitter.com/mWAGIKOCh0
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 22, 2025
بموازاة ذلك، تسعى إسرائيل إلى فرض واقع أمني جديد، تقوم فيه بإنشاء "جزر إنسانية" معزولة، يتم التحكم بها أمنيًا وإغاثيًا عبر شبكات محلية موالية، دون أي وجود حقيقي لسلطة فلسطينية مستقلة.
هذه المقاربة، التي وصفها تقرير المجموعة بأنها "هندسة اجتماعية بالقوة العسكرية"، تمثل سابقة خطيرة وغير مسبوقة منذ نكبة عام 1948، وتهدف في جوهرها إلى تصفية القضية الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى مجموعات مشتتة فاقدة لأي أفق وطني.
تفكيك غزة والضفة معًا: مشروع إسرائيلي لإغلاق ملف الدولة الفلسطينية
ترى "مجموعة الأزمات الدولية "أن الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة لا تقتصر على قطاع غزة فحسب، بل تترافق مع عمليات موازية في الضفة الغربية، ضمن مسعى واضح لإجهاض أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
فمنذ كانون الثاني/يناير 2025، أعادت إسرائيل نشر قواتها العسكرية في الضفة الغربية، مطلقة حملة عسكرية واسعة تحت مسمى "الجدار الحديدي"، استهدفت مخيمات اللاجئين الكبرى مثل جنين وبلاطة ونابلس.
ولم تقتصر العمليات على الملاحقة الأمنية، بل استخدمت أساليب تدمير شامل، شملت القصف الجوي والمدفعي المكثف، ونشر الدبابات داخل الأحياء السكنية، وتفجير شبكات المياه والكهرباء، وهدم أحياء ومخيمات بأكملها.
وقد أدت هذه السياسات إلى تهجير أكثر من 40 ألف فلسطيني خلال بضعة أشهر، في تكرار مأساوي لمشاهد النكبة الأولى عام 1948. ويرى التقرير أن الهدف المعلن لهذه العمليات يتمثل في تفتيت الضفة الغربية إلى جزر معزولة، تفصلها جدران أمنية وحواجز عسكرية ومستعمرات استيطانية، في تكرار لما يجري حاليًا في غزة، بما يؤدي عمليًا إلى إجهاض أي أمل بإقامة دولة فلسطينية على أساس حدود عام 1967.
دعم أميركي مقلق وتحولات خطيرة
يكشف التقرير أن الإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب، تتحمل قسطًا كبيرًا من المسؤولية عن التصعيد الجاري، سواء عبر دعمها السياسي والدبلوماسي غير المشروط لإسرائيل، أو من خلال الإمدادات العسكرية المستمرة.
يشير التقرير إلى أن لقاءات نتنياهو وترامب في أوائل 2025 مهدت الطريق أمام إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل للمضي قدمًا في خططها، بما في ذلك التلميحات الصريحة بشأن تشجيع تهجير سكان غزة بحجة "إعادة الإعمار".
ورغم الخطابات الأميركية العلنية الداعية إلى وقف إطلاق النار، فإن واقع الأمر يكشف عن دعم مباشر، زاد من تعنت نتنياهو ومنحه غطاء دوليًا لإطالة أمد الحرب.
تصدعات داخلية إسرائيلية وخيارات محدودة
في المقابل، ترصد "مجموعة الأزمات الدولية" مؤشرات متزايدة على تصدع داخلي في إسرائيل، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، مع تصاعد احتجاجات عائلات الرهائن الذين يتهمون الحكومة بالتضحية بأبنائهم لصالح أجندات سياسية بعيدة عن هدف إنقاذهم، إلى جانب ارتفاع أعداد جنود الاحتياط الرافضين للالتحاق مجددًا بجبهات القتال، في ظاهرة غير مسبوقة منذ عقود.
⬅️ شهور الحرب الطويلة.. مأساة #غزة بلا نهاية.
📌 بعد مرور أكثر من خمسة عشر شهرًا على الحرب على غزة، التي أودت بحياة أكثر من 46 ألف فلسطيني، يعيش معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة في مساكن مؤقتة، وسط استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية جراء البرد القارس والمجاع
📌 نزح ما… pic.twitter.com/rnJPUl7UDN
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 15, 2025
ويحذر التقرير من أن استمرار النزيف البشري والمادي، في ظل غياب أي استراتيجية سياسية واضحة للخروج من الحرب، قد يفاقم الانقسامات الداخلية ويؤدي إلى أزمة سياسية حادة، تهدد استقرار حكومة بنيامين نتنياهو على المدى المتوسط، وربما تسرّع من تفكك الجبهة الداخلية الداعمة للعملية العسكرية.
تداعيات خطيرة ومخاطر تصاعدية
تحذر مجموعة الأزمات من أن استمرار هذا المسار قد يؤدي إلى انفجار أوسع يشمل المنطقة بأكملها، مع احتمال دخول أطراف إقليمية أخرى على خط المواجهة، خصوصًا مع تصاعد التوترات على الحدود اللبنانية والسورية.
وتشير إلى أن تنفيذ سيناريو التهجير الجماعي في غزة، إذا حدث، سيشكل زلزالًا سياسيًا وأخلاقيًا، يقلب موازين الاستقرار الإقليمي لعقود مقبلة.
مشروع الهيمنة الإسرائيلي: إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة
تخلص مجموعة الأزمات الدولية إلى أن إسرائيل تسعى، من خلال حربها المتزامنة على غزة والضفة الغربية، إلى فرض واقع جيوسياسي جديد يعيد رسم خريطة المنطقة وفق مصالحها الأحادية، عبر تفتيت الأرض الفلسطينية، وتفريغ الضفة وغزة من أي أفق سياسي، وتحويل الفلسطينيين إلى تجمعات بشرية محاصرة بلا سيادة أو مستقبل.
ومع ذلك، يحذر التقرير من أن هذا المشروع، رغم ما يتمتع به من تفوق عسكري مرحلي، يحمل في طياته بذور انفجارات مستقبلية قد تتسبب في إعادة إشعال المنطقة بأسرها، بما يهدد استقرار الشرق الأوسط لعقود قادمة.
توصيات عاجلة للخروج من المأزق
يختتم تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" بتوصيات ملحة لمواجهة المسار الكارثي الحالي، داعيًا إلى ضرورة استعادة وقف إطلاق النار الشامل الذي تم التوصل إليه في كانون الثاني/يناير 2025 كخطوة أولى لوقف الكارثة الإنسانية المتفاقمة.
كما يحث التقرير على دعم الخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، شرط أن تتضمن آليات واضحة لحماية الحقوق الوطنية الفلسطينية ومنع أي محاولات لفرض تغييرات ديموغرافية بالقوة.
ويؤكد التقرير على أهمية دفع الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى تبني مقاربة سياسية حقيقية تتجاوز إدارة الأزمة نحو العمل الجاد لإنهاء الاحتلال وتحقيق حل سياسي عادل ومستدام يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
كما ينبه إلى أن أي تسوية قابلة للحياة يجب أن تعيد الاعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية، وتحول دون انزلاق المنطقة نحو فوضى دموية قد تطول لعقود مقبلة.