1. قول

غزة تتنفس الصمت لأول مرة.. اتفاق على إيقاع الخوف والأمل

10 أكتوبر 2025
أطفال غزة
فرحة أطفال غزة بالإعلان عن وقف إطلاق النار (AFP)
عماد عنان عماد عنان

جاء اتفاق شرم الشيخ بين حماس وإسرائيل مفاجئًا في توقيته وسرعته، وبدرجة أقل مخرجاته،  متجاوزًا التقديرات الأولية التي رجّحت استمرار المفاوضات لأسابيع إضافية على الأقل، في ظلّ الفجوات العميقة في المواقف الجوهرية بين الأطراف. 

فبينما تسعى واشنطن إلى صياغة تسوية تحفظ مصالحها وتعيد ترتيب المشهد الإقليمي، تتمسّك المقاومة الفلسطينية بثوابتها المتعلقة بسلاحها ومستقبل الحكم في غزة، ما يجعل الاتفاق أشبه بـ"تقاطُع مؤقت للمصالح" أكثر منه تسوية دائمة للصراع الممتد.

وفي غزة، المدينة التي صار صوت الطائرات جزءًا من إيقاعها اليومي، بدا خبر اتفاق وقف إطلاق النار أشبه بنسمةٍ مرت فوق ركامٍ ساخن. بطبيعة الحال لم يكن الخبر عاديًا في مكانٍ اعتاد الفقد أكثر مما اعتاد الفرح، فاستيقظ الناس هذه المرة على صوت صمتٍ غريب؛ لا انفجارات، ولا طائرات تحوم فوق الأسطح، فقط هدوءٌ مربك يحمل في طياته رجاءً هشًّا بأن تكون هذه الهدنة مختلفة.

من بين أنقاض البيوت المحترقة وملامح الأطفال المرهقة من الخوف، خرجت همساتٌ خافتة تتردّد في الأزقة: "يمكن… تكون المرة الأخيرة". لحظة امتزج فيها الأمل بالحذر، والدهشة بالدموع، وكأن المدينة كلها تتنفّس للمرة الأولى منذ عامين من القصف والنزوح والانتظار المرّ.

تجاهل الجذور... تحديات وعقبات

يُحلّق اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار في فضاءٍ ضيق بين إنجازٍ إنساني عاجل وغموضٍ سياسي متراكم، إذ لا يُقدَّم كخاتمةٍ للحرب بقدر ما يُعدّ نهايةً دبلوماسية لمرحلةٍ مؤقتة، فبدلًا من معالجة جذور الصراع، كإنهاء الحصار وضمان حق تقرير المصير، آثر الاتفاق تأجيل أكثر الملفات حساسية، ليترك وراءه ألغامًا سياسية قابلة للانفجار في أي لحظة.

تسعى واشنطن لترتيب تسوية تخدم مصالحها، فيما تتمسك المقاومة بسلاحها ومستقبل الحكم في غزة، ما يجعل الاتفاق تقاطعًا مؤقتًا للمصالح لا تسوية نهائية

أول هذه الألغام هو سلاح المقاومة، الملف الأكثر تفجيرًا. فبينما تُصرّ تل أبيب على نزع سلاح حماس، ترى الأخيرة أن هذا السلاح لن يُسلَّم إلا بعد إنهاء الاحتلال، هذا التناقض الجوهري يجعل الهدنة هشةً ومؤقتة بطبيعتها، إذ تتعايش فيها المعادلتان: الهدوء الحذر واستعداد العودة للمواجهة.

اللغم الثاني يتمثل في مسألة الانسحاب الإسرائيلي. فالاتفاق يكتفي بإعادة التموضع "فوق الخط الأصفر"، دون انسحابٍ كامل من المناطق الحيوية كرفح وبيت حانون ومحور فيلادلفيا. 

هذا الترتيب العسكري الملتبس يثير تساؤلًا مصيريًا: هل يمكن لحماس أن تقبل بوجودٍ إسرائيلي دائم في نقاط التماس دون جدول زمني للانسحاب؟ القبول يُعدّ تراجعًا استراتيجيًا، والرفض قد يُشعل جولة جديدة من القتال.

أما "اليوم التالي للحرب"، فيبقى بدوره معلقًا بين رؤيتين متضادتين، فنتنياهو يرفض أي عودة لحماس إلى حكم غزة، فيما يطرح ترامب تصوّرًا بوصايةٍ دولية أو إدارةٍ مشتركة بمشاركة شخصيات أجنبية مثل توني بلير.

في المقابل، تؤكد حماس استعدادها للتنحي، شرط أن تُسند الإدارة إلى حكومة تكنوقراط فلسطينية مدعومة عربيًا وإسلاميًا. وبين هذين الخيارين يلوح فراغ السلطة كخطرٍ محتمل يعيد الفوضى إلى القطاع.

ويبقى ملف الدولة الفلسطينية لُبّ الخلاف ومصدر الشك الأكبر، فبينما ترى الأطراف العربية والإسلامية أن الاتفاق يجب أن يفضي إلى قيام دولة مستقلة، يرفض نتنياهو واليمين الإسرائيلي ذلك رفضًا قاطعًا، ما يجعل من فكرة الدولة حلمًا مؤجلًا يتحول إلى عقبة تهدد بانهيار العملية برمتها.

اتفاق بقوة الدفع

دخلت حماس وإسرائيل مفاوضات شرم الشيخ مدفوعتين بضروراتٍ ضاغطة أكثر منها برغبةٍ في سلامٍ حقيقي، فالحركة الفلسطينية، المثقلة بدمارٍ غير مسبوق ومعاناةٍ إنسانية قاسية، رأت في الهدنة فرصةً للبقاء واستعادة الأنفاس وإعادة ترتيب أوراقها وسياساتها مجددًا، بينما استغل الاحتلال ذلك كورقة ضغط لتقليص مكاسب المقاومة وانتزاع تنازلات تحت وطأة الحاجة.

في المقابل، كان نتنياهو يواجه مأزقًا داخليًا متفاقمًا؛ فبعد عامين من الحرب، لم يحقق وعوده السياسية أو العسكرية، وتراجعت شعبيته في ظل عزلةٍ دولية وموجة اعترافات متنامية بالدولة الفلسطينية، لذا لجأ إلى الاتفاق كخيارٍ اضطراري يمنحه "نصرًا رمزيًا" عبر استعادة الأسرى، مروجًا له كإنجازٍ يرمم صورته المهتزة.

أما الولايات المتحدة، فدخلت على الخط بدوافع سياسية وشخصية؛ إذ وجد ترامب في الاتفاق فرصة لإعادة تقديم نفسه كـ"صانع سلام"، وسط تراجع صورة واشنطن عالميًا بسبب دعمها الأعمى لإسرائيل. وهكذا، وُلد اتفاق شرم الشيخ من رحم الضرورة لا من إرادة سلام، ليبقى سؤال جوهري معلقًا: هل هي بداية طريق نحو الهدوء، أم مجرد استراحة قصيرة قبل جولةٍ جديدة من الدم؟

شكوك ومخاوف

رغم النغمة المتفائلة التي رافقت إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ، لا تزال الشكوك العميقة تظلل المشهد الفلسطيني، حيث يُدرك الجميع – من الفصائل إلى الوسطاء والمجتمع الدولي – أن سجلّ إسرائيل الطويل في التنصل من التفاهمات يجعل الثقة عملة نادرة. 

فالفلسطينيون الذين تذوقوا مرارة الوعود المجهضة كثيرًا، لا يعلقون آمالًا كبيرة على ضمانات أميركية كثيرًا ما خذلتهم، خاصة في ظل حكومة نتنياهو التي اعتادت التعامل مع الاتفاقات كاستراحة تكتيكية أكثر منها التزامًا استراتيجيًا.

وهنا يتردد في الأذهان سؤال يفرض نفسه بقوة: هل سيلتزم نتنياهو ببقية مراحل الاتفاق، أم أنه سيعود إلى دوامة الحرب فور إنجاز صفقة الأسرى؟..  فالمخاوف تتعاظم من أن تسعى تل أبيب إلى استغلال التهدئة كوسيلة لتجريد المقاومة من ورقتها الأهم – ورقة المحتجزين – قبل أن تعود لتصعيدٍ جديد يكرّس موازين القوة.

حينها تجد حماس نفسها بين خيارين أحلاهما مر، إما أن ترضخ لقواعد اشتباك ومعادلة مفاوضات جديدة بعدما جُردت من سلاحها التفاوضي الأهم،  أو أن تواصل المعركة بما لذلك من تبعات وكلفة باهظة، خاصة بعد تخفيف الأعباء عن جيش الاحتلال في ذلك الوقت بعد تخلصه من ضغوط عائلات الأسرى. 

هذه الهواجس تجد ما يغذيها في تصريحات وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا علنًا إلى "تدمير حماس بعد الإفراج عن المحتجزين"، وهي كلمات تعيد إلى الذاكرة الفلسطينية سجلًا طويلًا من الخداع السياسي والاتفاقات المنقوضة.

على الجانب الآخر، يبرز تيار أكثر تفاؤلًا يرى أن نتنياهو لم يعد يمتلك ما يبرر استمرار الحرب، فالرجل يواجه ضغوطًا داخلية متزايدة، واحتجاجاتٍ من عائلات الجنود المحتجزين، إلى جانب كلفة بشرية واقتصادية ضخمة أنهكت الإسرائيليين.

كما أن صورته أمام العالم تآكلت بشدة، مع تراجع التعاطف الدولي وتزايد الاعترافات بالدولة الفلسطينية،  ويعتبر هؤلاء أن التحول النسبي في نبرة نتنياهو عقب توقيع الاتفاق، حين تحدث عن "نشر السلام مع الجيران"، ليس مجرد خطاب علاقات عامة، بل محاولة لإعادة التموضع السياسي وسط عزلة داخلية وخارجية خانقة.

وبين تيار الحذر وتيار التفاؤل، يبقى اتفاق شرم الشيخ معلقًا في منطقة رمادية، فالتاريخ القريب يثبت أن الثقة في نوايا نتنياهو مغامرة لا تُحمد عواقبها، في حين تعرف المقاومة أن أي سوء تقدير قد يفتح أبواب جولة جديدة من النار والدمار.

أما الوسطاء، من القاهرة إلى الدوحة وأنقرة، فيجدون أنفسهم أمام اختبار صعب: هل يكون اتفاق شرم الشيخ بداية حقيقية لنهاية الحرب، أم محطة أخرى في سلسلة هدَنٍ مؤقتة تُرمم الوقت أكثر مما تُرمم الجراح؟

 أثبتت التجارب السابقة أن التفاهمات السياسية مع إسرائيل لا تصمد طويلًا أمام تقلبات المشهد الداخلي الإسرائيلي وضغوط اليمين المتطرف

ضمانات الصمود

يبدو المشهد الراهن وكأنه يقف في منطقة رمادية تجمع بين الحذر والتفاؤل، فبرغم ما يشي به اتفاق شرم الشيخ من بوادر تهدئة، تبقى الأسئلة الكبرى مفتوحة حول الضمانات القادرة على إلزام حكومة بنيامين نتنياهو بتنفيذ بنود الاتفاق واستكمال مراحله اللاحقة.

فقد أثبتت التجارب السابقة أن التفاهمات السياسية مع إسرائيل لا تصمد طويلًا أمام تقلبات المشهد الداخلي الإسرائيلي وضغوط اليمين المتطرف، الأمر الذي يجعل بناء منظومة ضمانات متعددة المستويات ضرورة استراتيجية لضمان عدم انهيار الاتفاق في مراحله الأولى.

ويشكل الصمود الفلسطيني والمقاومة الركيزة الأولى لهذه الضمانات، إذ أثبتت التجربة الميدانية أن أي إنجاز سياسي لا يمكن أن يتحقق دون ثمنٍ على الأرض. فالمعادلة التي فرضتها غزة خلال العامين الماضيين أكدت أن إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، عاجزة عن كسر الإرادة الفلسطينية أو إخضاعها بالقوة. ومن ثمّ، فإن استمرار المقاومة كعامل ردع وكمؤشر على ثبات الإرادة يشكّل الضمانة الأهم لعدم التفاف إسرائيل على الاتفاق أو محاولة فرض وقائع جديدة.

أما الضمانة الثانية، فتتمثل في استمرار الزخم الدولي المتنامي الداعم للقضية الفلسطينية، فخلال الأشهر الأخيرة، شهد العالم اتساعًا غير مسبوق في نطاق التضامن مع الفلسطينيين، سواء على مستوى الرأي العام أو داخل المؤسسات الرسمية والحقوقية، الأمر الذي حاصر إسرائيل سياسيًا وإعلاميًا، وجعلها في موقع الدفاع أمام موجة الإدانة الدولية، فهذا الضغط المتنامي، إذا ما استمر، يمكن أن يتحول إلى عامل ردع فعلي ضد أي محاولة إسرائيلية للنكوص عن الاتفاق.

وفي الإطار الإقليمي، يبرز الموقف العربي والإسلامي الحازم كضمانة ثالثة. فتبنّي موقف موحد يوجّه رسالة مباشرة إلى واشنطن وتل أبيب مفادها أن العودة إلى الحرب في غزة لن تكون مقبولة، سيمنح الاتفاق غطاءً سياسيًا إقليميًا يصعب تجاوزه.

وتبقى الضمانات الأميركية حجر الزاوية في أي ترتيبات قادمة. صحيح أن الإدارات الأميركية المتعاقبة قدّمت وعودًا مماثلة في الماضي دون أن تُترجم فعليًا إلى التزامات عملية، لكن السياق الحالي مختلف؛ فواشنطن تواجه ضغوطًا داخلية ودولية بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل، وهو ما قد يدفع إدارة ترامب إلى السعي الجاد لتقديم ضمانات أكثر مصداقية تمنع نتنياهو من التراجع أو الالتفاف على الاتفاق.

من هنا، فإن تضافر هذه الضمانات، الفلسطينية والعربية والدولية والأميركية، هو وحده القادر على تحويل اتفاق شرم الشيخ من هدنة هشة إلى مسار سياسي مستقر نحو إنهاء الحرب، غير أن بقاء هذه العوامل في مستوى الأقوال دون أن تتحول إلى التزامات عملية سيجعل الاتفاق مهددًا بالتآكل والانهيار، ليبقى معلقًا بين الأمل والخذلان.

ورغم الأثمان الباهظة التي دفعها الفلسطينيون خلال عامين من الدمار، فإن ما تحقق حتى الآن هو ثمرة صمودهم وثباتهم الإنساني والسياسي، ومع بدء العدّ التنازلي لتنفيذ المراحل المقبلة، ستتجه الأنظار نحو الضمانات الدولية والعربية التي قد تمنح الاتفاق فرصة للبقاء أو تتركه يتهاوى كغيره من الهدن السابقة. 

وبين هشاشة الواقع وطموح التحوّل إلى سلامٍ دائم، تبقى الحقيقة الثابتة أن غزة لا تبحث عن هدنة مؤقتة، بل عن حقٍ في الحياة، وأن اختبار الإرادات الحاسم لم يبدأ بعد — فإما أن تكون شرم الشيخ بداية طريق نحو إنهاء الحرب، أو محطة جديدة في دائرةٍ ما تزال مفتوحة على الاحتمالات كافة.

كلمات مفتاحية
كوليج دو فرانس

"كوليج دو فرانس" إذ ينقلب على نفسه

أن يلغي "كوليج دو فرانس"، مؤتمرًا عن فلسطين مع المركز العربي للأبحاث تحت ضغط لوبيات يمينية وإسرائيلية، فهذا خبر يستحق التوقف

محمد عبد الكريم

هل تعرفون عازف بزق عربيًا اسمه محمد عبد الكريم؟

حلمتُ مرةً أن عازفًا سوريًا اسمه محمد عبد الكريم

ساذج نصار

في مديح امرأة فلسطينية قوية

اسمها ساذج نصّار (1900-1970)، وُلدت في الناصرة وماتت في دمشق، من أصول إيرانية، والدها بديع الدين بهائي كان مقيمًا في عكا

ترامب والشرع
سياق متصل

لقاء الشرع وترامب: أربعة ملفات أساسية على الطاولة

تمثل زيارة الرئيس السورية أحمد الشرع حدثًا رمزيًا يعكس مرحلة جديدة من التواصل بين دمشق وواشنطن

كمال الشناوي - نور الشريف في الدورة الأولى من مهرجان القاهرة السينمائي (الأهرام)
فنون

من أين جاءت فكرة إنشاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؟

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

صورة تعبيرية
الترا لايت

فجوة الانبعاثات تتسع.. هل يمكن تحقيق أهداف اتفاقية باريس؟

تهدف اتفاقية باريس إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية بشكل كبير

فار
رياضة

قوانين كرة القدم.. 5 تغييرات تطالب بها الجماهير

بعد استطلاع أجرته شبكة بي بي سي، هذه هي أبرز التغييرات على قوانين كرة القدم التي طالبت بها الجماهير