10-أكتوبر-2017

حسين البندر

يقول الشاعر العراقي الشاب حسين البندر لـ"ألترا صوت" تعليقًا على صدور كتابه الأول "غرق غير مؤكّد" (دار الكتب العلمية، بغداد 2017): "كنت قد نجوت من الغرق بأعجوبة، في بحر إيجة الغادر، أثناء الإبحار بالزورق المطاطي المتهالك، وكانت نجاتي بمثابة مزحة مضحكة، أرويها بعد حين، لمن هم قريبين مني، فهي لما فيها من دراما وسخرية سوداء تصلح أن تكون فيلم هوليوودي ناجح، لم يكن ذلك إلا سرياليًا، بأن أهرب من جحيم العراق المظلم، لأغرق في بحر إيجة".

"غرق غير مؤكّد" كتاب سردي تتنوع فيه الفصول بين المذكرات واليوميات والقصص القصيرة الواقعية والشهادات

بدأ البندر في العمل على كتابه منذ أيام وصوله الأولى إلى بر الأمان في ألمانيا، بعد رحلة شاقة خاض فيها البر والحبر، وعايش تجارب العديد من اللاجئين على الطريق. يقول: "لم يكن التدوين سهلًا في تلك الظروف، ولكن التجربة جاءت بمثابة الصدمة، من النجاة، ومن الهرب من الجحيم العراقي، التقليدي منذ عقود، لتتُولّد لدي موجة من التدفق بالسرد، أشبه بهذيان مؤلم لمريض في حالة حرجة، وليكتمل الكتاب بعد عناء مرير، حيث تعود إلي ذكرى تلك الأيام القاسية في الطريق، وتتدهور حالتي النفسية، في كل مرة أراجع الفصول التي أكتبها".  

[[{"fid":"90431","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":297,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

"غرق غير مؤكّد" كتاب سردي تتنوع فيه الفصول بين المذكرات واليوميات والقصص القصيرة الواقعية والشهادات، ويحتوي على ملف صور كامل من الهجرة، ابتداء من تركيا فاليونان وحتى ألمانيا، وكلها بتصويريه الخاص.

اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في خمس روايات

ينتمي الكتاب إلى نوع أدبي رافق ثورات الربيع العربي وما تلاها من فصول الهجرة والدم، حيث راح الكتّاب يقاربون الوثيقة لكن من منظور يجمع الشخصي والعام. يرصد البندر مشاهد النزوح والفرار خلال الفترة التي تحوّل فيها إلى حدث عالمي، لا سيما مع محاولة العديد من السوريين الفرار من قصف الطيران الروسي من جهة، ومن داعش والإرهاب والأسد من جهة أخرى.

لا يرى الكاتب أن عملية الهجرة تنتهي بالوصول إلى البلد الهدف، إنما على العكس من ذلك، فهي تبدأ في هذه اللحظة بالذات، عندما يضيع مئات الألوف من البشر في على هامش الحداثة الأوروبية، من خلال التنقل بين مراكز الإيواء والمساكن الفقيرة والأرياف النائية. فهذه حرب نفسية تزيد البشر اللاجئين كآبةً وبؤسًا.


من الكتاب

ترجل شرطي من السيارة، ذو جثّة ضخمة، بيده كشّاف ضوئي موجّه نحو زجاج النافذة، وترجل خلفه صاحبه الذي كان ضخمًا أيضًا. الشرطة في أوروبا دائمًا ما يمتازون بالضخامة. اقترب الشرطي الجثة من وجوهنا ليراها جيدًا، لم ننطق بأية كلمة أبدًا، نظرنا إليه نظرات شفقة، كأننا نطلب منه أن يرأف بنا، بقي يتفحص وجوهنا ثم طلب منا أوراق الطرد الصربية. نحن كما قلت لا نملك هذه الأوراق، فقد دخلنا بدونها لهذا البلد، وهذه مخالفة بالنسبة لهم، أما نحن فلا، لأننا أصلًا متسخون ومخالفون ومنبوذون ومعزولون ولاجئون، فقلنا له إن لدينا أوراق الطرد من اليونان ومقدونيا، لكنه هز رأسه بالرفض، وبقي يتكلم بالصربية عبارات لا نفهما قطعًا، وحتى أننا لم نسأله إذا كان يتقن قليلًا من الإنجليزية بسبب الرهبة والخوف، وأثناء ما كان يفكر بالذي يفعله بنا في هذا الليل،  قام أحد الشباب بحركة فاجأتنا جميعًا، إذ أخرج هاتفه وعرض صور أطفاله للشرطي، قائلًا له بالإنجليزية "أرجوك ساعدنا"، ثم أردف: "أنا خارج من العراق من أجل حياتهم".

 كانت نبرة صوته باكية وحزينة، أذكر أننا تأثرنا أكثر منه في ذلك الموقف، لقد بكيت وأنا أتذكر ذلك فيما بعد، ويبدو أن إنسانية الشرطي تعرضت للاهتزاز، لأنها صورة تجمع ثلاثة أطفال في متنزه ترابي بائس في بغداد، كانوا يمسكون ببعضهم البعض مبتسمين ولا يعرفون معنى كلمة موت. ذهب الشرطي إلى سيارته ليخبر الضابط الجالس فيها، أو ربما راح ليجلب شيئًا يشبه الحل من هناك، وهنا قال السائق الصربي بما معناه "أعطوا للشرطة مئة يورو وسيجعلوننا نمر"، قلت للشباب لنجرب أن نعطيهم هذا المبلغ، فإنه مبلغ كبير بالنسبة لفقرهم، بقينا ننتظر رجوعه الذي لم يطل. أخذ السائق ورقة المئة يورو وذهب نحوهم للسيارة، فهو يريد تخليص نفسه أيضًا، رأيت الشرطي يهز رأسه موافقًا، لكنه عاد وطلب منا مئة يورو أخرى لكي يسمح لنا بالعبور، ولم نتردد في إعطائها له، فما كان منه ألا أن يوافق مدفوعًا على ما يبدو بدافع المال، وليس بالدافع الإنساني، فتنفسنا الصعداء آنذاك، إذ يبدو أننا نجونا مرة أخرى، ولكن كم مرّة علينا أن ننجو؟

عاودت سيارتنا المسير من جديد في نفس الطريق، ومرت الساعات دون مشاكل تذكر، إلى أن وصلنا إلى مكان على مقربة منه تظهر أضواء مخافر حدودية، كانت مخافر الحدود الصربية الهنغارية.

في البداية لم أميز معالم المخافر التي صارت أمامنا، وذلك بسبب الظلام، لكني عرفت أننا في شارع فرعي، وهناك أضواء. في ذلك المكان، انتهت مهمة السائق، فأنزلنا ومضى، كان يجب علينا عدم إشعال السجائر، أو ضوء التليفونات، خوفًا من التقاطنا من قبل الجيش الهنغاري، وكان هناك طريقان لعبور هنغاريا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصص "ليثيوم".. متاهات النفس البشرية

عبد الرزاق بوكبة.. معول الشعر في أرض السرد