25-يونيو-2016

غابرييل غارسيا ماركيز(باكو خونكيرا/Getty)

دخلت مكتبة العالم الثالث، الواقعة بجنب تمثال الأمير عبد القادر، وسط العاصمة الجزائرية، أبحث عن إصدارات جديدة، هناك تذكرت أن أحد الأصدقاء قد طلب مني أن أجلب له رواية "مائة عام من العزلة" لصاحب نوبل للأداب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. لم أجد الرواية بين الرفوف، سألت صاحب المكتبة فقال إنها ستتوفر بعد أسبوع، ثم بادرني بالكلام: "أتَعْلَم أن ماركيز توفي في ذات اليوم الذي سلم فيه الجزائريون أمر البلد لرجل مريض؟"، قلت له: "يا لها من مفارقة عجيبة"، ابتسم وقال: "هناك المزيد من الصدف والمفارقات، ابحث جيدًا في حياة ماركيز، لقد كان يحمل الجزائر في قلبه، كما لو كان جزائريًا، فأي قصة هذه التي تربط ماركيز بالجزائر؟

لقد كان قدر غارسيا ماركيز في باريس أن يكتشف الثورة الجزائرية بل وأن يصبح جزءًا منها ولو ليوم واحد

أن تولد في "أركاتاكا"، في كولومبيا، في قلب أمريكا اللاتينية، فذاك معناه أن تكون ثائرًا بالفطرة، رافضًا للظلم، وأن تنحاز للشعوب المستضعفة، وحين ترميك الأقدار كي تعيش جزءًا كبيرًا من حياتك في كوبا، فذاك سيجعلك ترى كل صباح في شوارع "هافانا" شعبًا يمجد كاسترو وغيفارا، لتصير ثائرًا بالفكرة والاقتناع، فماذا يخبئ لك القدر حين تكون مضطرًا لمغادرة وطنك وتصير لاجئًا بمنفاك الاختياري بباريس؟، لقد كان قدر غارسيا ماركيز في تلك المدينة أن يكتشف الثورة الجزائرية بل وأن يصبح جزءًا منها ولو ليوم واحد.

نهج "سان ميشال" بباريس، حيث عدد المغتربين العرب يفوق عدد الفرنسيين، كان العمال الجزائريون يقصدون مقاهي وحانات الحي، لينسوا معاناتهم اليومية في المصانع وورشات البناء، ذات يوم من عام 1961 داهمت الشرطة الفرنسية المكان، وبدأت في اعتقال الموجودين هناك، ممن لا تظهر عليهم الملامح الفرنسية، غارسيا ماركيز كان هناك، بل وقامت الشرطة باعتقاله أيضًا، قادت الشرطة المعتقلين في حافلة، ورمتهم في زنزانة في أحد مراكز الشرطة بمقاطعة "سان جرمان دي بري".

في مقال له في جريدة "البايس" الإسبانية صدر عام 1982، أين تكلم عن تجربة مروره بباريس في منتصف خمسينيات القرن الماضي، يقول غارسيا ماركيز: "لقد وضعتنا الشرطة في زنزانة واحدة، كان ذلك يشعرني بالإهانة، فتربيتنا اللاتينية رسخت في عقلي أن السجن مرادف للعار، لقد ظنت الشرطة الفرنسية أنني جزائري بسبب ملامحي، كما أني أحسست بأن شركاء الزنزانة يشكون في أمري، فأنا لم أنطق بأي كلمة، ولم أكن أفهم كلامهم المتبادل بالعربية، لكن داخل تلك الأمتار المربعة المعدودة تعرفت على طبيب جزائري، توطدت علاقتي به بعد السجن، وصار أحد أعز أصدقائي في باريس، لقد تعرفت عن قرب على قضية عادلة، وصرت أحرص على لقاء مناضلين بجبهة التحرير الوطني". ويضيف: "في الوقت الذي كان فيه عناصر الشرطة يأكلون ويحتسون النبيذ أمام باب الزنزانة، كان جميع من في الداخل يغنون لهم تلك الأغاني الثورية، المنادية للتحرر والرافضة لكل أشكال القمع". شيء ما صار جزائريًا داخل الكبير ماركيز.

كانت باريس محطة خاصة في حياة "ماركيز الإنسان"، حيث عاش فيها أقسى مراحل حياته، كانت المدينة بمثابة المنفى، هناك مر بتجربة الفقر والجوع، لم يجد ما يقتات به فاضطر لاسترداد ثمن تذكرة العودة إلى بلده ليتقاسم تلك الفرنكات مع بعض أصدقائه، يقول غارسيا عن باريس: "كانت الموسيقى المليئة بالحنين تعمر جنبات الشوارع، لكن شبح القمع لم يكن يبرح المكان".

بعد 28 سنة من تلك الحادثة، وفي عام 1979 تمت دعوة ماركيز للقدوم إلى الجزائر وحضور احتفاليات ذكرى الاستقلال، كانت شهرته قد سبقته، فلقد صار كاتبًا عالميًا مشهورًا، ورمزًا من رموز الأدب خاصة لدى شعوب المعسكر الاشتراكي التي كانت ترى في الفن والأدب رمزًا من رموز المقاومة التي لا تنتهي، كان لـ"غابو" كما يلقبه مقربوه لقاء مع الصحافة الجزائرية، سأله أحد الصحفيين عن علاقته بالجزائر فأجاب ماركيز: "سأقول كلامًا سيدهشكم، أقوله لأول مرة، الجزائر هو البلد الوحيد الذي دخلت السجن لأجله" .

في كتاب "ماركيز، حياة" الذي كتبه البريطاني جيرالد مارتين وردت قصة أخرى، حيث يقول ماركيز إنه استلهم قصة روايته "وقائع موت معلن"، من حادثة عاشها في مطار الجزائر الدولي وهو ينتظر رحلة عودته لكوبا، حين رأى مسافرًا يحمل صقرًا معه، فازدحمت أفكار في مخيلته، فكانت منطلقًا لأحداث روايته الشهيرة، والتي كانت لبعض شخوصها أسماء عربية.

هكذا كانت الجزائر حاضرة بشكل رمزي وفعلي في حياة وكتابات غارسيا، ابن كولومبيا الذي كتب "خريف البطريرك"، تلك الرواية التي ما إن تصفحتها يخيل لك وكأنها تصف وصفًا دقيقًا المشهد الجزائري الحالي بكل تفاصيله، جماعة استولت على الحكم، وانفردت بالقرار، ورجل مريض ينخر التعب قواه يحكم البلد، مشاهد تلك الرواية صارت واقعًا جزائريًا يوميًا، هكذا هم العظماء يطرحون أسئلة وقضايا تتواصل رحلة الإجابة عنها بالرغم من رحيلهم عن هذا العالم.