12-ديسمبر-2015

مقطع من عمل نحتي لـ أحمد البحراني/ العراق

باتتْ الأمراض النفسية من أكثر الأمراض انتشارًا، وأكدت الدراسات أن معظم الناس مصابون بمرض نفسي ما، وتتفاوت خطورة هذه الأمراض من حالة إلى أخرى، فمنها العادي، ومنها الخطير الذي يفتك بالمرء فتكًا كبيرًا لا يشعر به إلّا الذي يعاني منه، وفي هذه الحالة لا يجد المصاب بمرض نفسي خطير سوى طبيبه في أفضل الحالات.

يشكل المحيط عبئًا على المُصاب بمرض نفسي لعدم تفهمهم ما يمر به من معاناة داخلية

بالمقابل قد يشكل المحيط على هذا المُصاب عبئًا كبيرًا لعدم تفهمهم ما يمر به من معاناة داخلية، لذلك تجده ينعزل ولا يبرح المكان الذي يجد فيه خلوته، وقد تستغرق هذه العزلة فترات طويلة، وربما يطلب الطبيب النفسي من مريضه أن يخرج للأماكن العامة مثل الحديقة والمقهى والمسرح والنادي والسينما والسوق والساحات العامة، لكن هذا المريض لا يجرؤ على فعل هذا لأنه يعلم أنه قد يُصادف شخصًا ما من معارفه وهو في حالة تشبه الاحتضار والموت، ولا قدرة له على التحدث مع أي كائنٍ على وجه الأرض، لذلك هو يُصرُّ على المكوث والعزلة تحاشيًا لهذه الموقف.

ونحن نعلم أنّ الفرد السليم قد يحاول استلطاف الفرد المصاب بمرض نفسي فتّاك، ويحاول أيضًا أنْ يأخذ بيده كي يساعده على الخروج من حالته هذه، لكن في ذات الوقت لا يريد المُصاب أي شيء من أي شخص في هذا الوقت، وربما محاولات الآخرين في مساعدته تسبب له ألمًا زائدًا على الحالة التي هو بها، وهنا يبدأ سوء الفهم بين الطرفين، ويدفع المُصاب ضريبة هذا السوء بالفهم، على جهتين، من الجهة النفسية ومن الجهة الاجتماعية، لذلك يجد أنّ المكوث والعزلة هي أكثر سلمًا له رغم رغبته في الخروج في لحظة ما.

والمصاب بمرض نفسي من تلك الأمراض التي تستوجب العزلة يود التحدث مع الغرباء أكثر من الذين يعرفهم، لذلك تراه يود الخروج لشراء بعض الأشياء، فربما تحدثه مع صاحب المتجر يمنحه حالة أفضل من بقائه رهين العزلة، وكذلك مع سائق التاكسي، وقاطع التذاكر، والنادل، وربما مع بائع متجول. ويبقى المانع الذي يمنعه من ممارسة هذا الشأن هو مخاوفه من رؤية الذين يعرفهم ولا يود رؤيتهم وهو بهذه الحال، ولذلك يفضل البقاء في عزلته رغمًا عنه.

لقد استخدم الإنسان وما زال يستخدم الرمز في حياته منذ بداية وجوده، وكان هذا الرمز حاضرًا في عدة شؤون، لكنه بدا واضحًا وجليًا في الشأنين الديني والعسكري، فترى رجال الدين يضعون بعض الأشياء كرموز تدل على الصفة التي يمثلونها ويشغلونها، ورموز تدل على الدين الذي يعتنقونه، وكذلك الأمر في الشأن العسكري ترى الرموز التي يضعها بعض العسكريين كدلالة على الرتبة والمكانة التي وصلوا إليها، وهذا الأمر يختصر الكثير من المعرفة، فالرمز هنا معرفة بحد ذاتها، وترى بعض الرجال في الشأن الديني يمشون في الأماكن العامة وجميع من يراهم يدركون مكانتهم دون الحاجة إلى السؤال، وكذلك الأمر فيما يخص العسكريين، والرمز هنا يمنح حامله حصانة بطريقة أو بأخرى، سواء كانت هذه الحصانة في مكانها أو ليست في مكانها، ولكن في نهاية المطاف يبقى الرمز رمزًا وله مكانته المعرفية من قِبل الناس.

تختصر الرموز علينا الكثير من المعرفة، لأنها معرفة بحد ذاتها

عُصابة الخروج الرحيم هي عبارة عن قطعة قماش صفراء اللون مُنقطة بالأسود، يلف المريض يده بها كرمز ودلالة على وضعه النفسي الذي يمر به، وتمنحه حصانة تجعله يخرج للأماكن التي يريدها ويرغب بها دون أنْ يتعرض لتلك المواقف التي تشكل له ضغوطات نفسية وتزيد من وضعه النفسي، ومن خلالها يعرف الناس أنه يمر بهذه الحالة التي لا يريد التحدث بها مع أحد، وليس بإمكانه التحدث بأي شكل من الأشكال، ومن خلال هذه العُصابة يتخلص من فكرة العزلة القسرية، ويستطيع الحصول على الحصانة بشكل واضح دون أن يضطر للقلق والتوتر والألم الذي ينتابه أثناء شرح وضعه لأحد ما قد يصادفه في الطريق أو في مكان ما.

وهذه العُصابة تخفف من نسبة الانتحار لدى هؤلاء المرضى، فالمريض حين يكون وسط محيط يُدرك وضعه النفسي وألمه، وبالتالي يكون قد تخلص من النوبات التي تفتك بروحه بسبب عدم معرفة المحيط بألمه، فالمنتحر ينتحر كنوع من التعبير عن الألم الذي لا يدركه الآخرون، وبانتحاره يكون قد أبلغ الآخرين عن مدى الألم الذي كان يمر به دون أن يعرفه أحد، ولكن رسالته تصل لهم بعد فوات الأوان، لذلك العُصابة تخفف من الضغط الكبير على المريض حين يسير وهو يُدرك أن المحيط قد أصبح على بيّنة بحاله.

إن هذا المفهوم الإنساني يحتاج دعمًا جادًا من قِبل المنظمات الإنسانية والعاملين في الشأن الإنساني وسفراء النوايا الحسنة، وذلك عبر طرح هذا المفهوم في أماكن تواجدهم وتخصيص القليل من الوقت لهذا المفهوم عبر منابرهم المسموعة، لا سيما أن لهم مكانة خاصة عند الجماهير، وسيكون هذا عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكذلك الأمر تستطيع المنظمات الإنسانية تزويد مقدم برامج واحد على الأقل في كل بلد، ويكون برنامج هذا المُقدم يحظى بجماهيرية واسعة في بلده وبهذا الشكل نكون قد أوصلنا صوت هذه الحركة لجميع سكان بلدان هذا العالم، وبهذا الشكل تصبح عُصابة الخروج الرحيم قد صارتْ رمزًا معروفًا لدى المصابين بتلك الحالات النفسية، وكذلك لدى المجتمع بعمومه الذي سيكون على دراية بهذه العُصابة، والذي سيدرك معنى ارتدائها من قِبل المصاب ومنحه تلك الحصانة التي يحتاجها، وبهذا الشكل يكون المصاب قادرًا على كسب حريته في الخروج دون ضغوطات وتوترات.

اقرأ/ي أيضًا:

اعرف شخصيتك من لحيتك

لماذا تموت أسماكنا؟!