28-مارس-2018

شارع في القاهرة

في روايته "عيّاش" (دار الساقي، 2017) يشتغل الروائي المصريّ أحمد مجدي همّام (1983) على رسم خرائط المجتمع المصريّ الذي مزَّقته الاضطِّرابات السّياسيّة المتتالية، محاولًا رصد التحوّلات التي طرأت عليه بعد ثورة يناير، وصولًا، وإن بطريقةٍ غير مباشرة، إلى ما بعد الثورة المضادّة التي حوّلت أحلام المصريين بالتغيير إلى خيبات متتالية. هنا، سوف يلجأ همّام إلى تفكيك وتشريح الواقع المصريّ الراهن كعتبة أولى لتكوين، بحياديّة تامّة، صورة قادرة على نقل وتوصيف الحالة التي وصل إليها هذا المجتمع بعد سنوات الاضطِّراب تلك التي عصفت باستقراره وأعادت، في مكانٍ ما، صياغته من دون أن تُلغي الأسباب التي كانت تقف خلف الاحتجاجات الشعبيّة المتتالية. بل، وعلى العكس تمامًا، ضاعفت منها على نحوٍ أقسى مما كانت عليه سابقًا.

نتعرّف في رواية "عيّاش" على أمكنةٍ تغرقُ ببشرها في مستنقعات الفساد

على هذا النحو، سنتعرّف في رواية همّام هذه على أمكنةٍ تغرقُ، ببشرها، في مستنقعات الفساد. تلك التي لا أمل لهؤلاء البشر الغارقين في أهوالها بالنجاة من عفونتها، أو الوقوف على الحياد منها، ذلك أنّها لا تترك لهم خيارًا غير أن يكونوا إمّا ضحايا، أو جلّادين. الأمر الذي يضعنا إزاء مجتمع لا يزال، ورغم تواتر السنوات والأحداث، يُعاني أزماتٍ ثقافيّة واجتماعيّة تنفي قابليته للتغيير أو الإصلاح، في ظل الحضور البوليسي الثقيل للسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: عطارد.. القتل من وجهة نظر قناص الداخلية

تعتني رواية "عيّاش" بالتفاصيل الصغيرة والهامشيّة التي تصوغ مصائر البشر. هنا، سوف يُضيِّق أحمد مجدي همام، صاحب "أوجاع ابن آوى" من دائرة الفرجار في رسم مصائر هؤلاء البشر، مكتفيًا برسم مصير فردٍ منهم، تكوِّنُ حكايته مرآةً تعكس واقع حيواتهم جميعًا بجوانبها المختلفة. هكذا، سنتعرّف على عمر عيّاش، بطل الرواية الذي يجد نفسه مُحاصرًا بين عقدتين؛ جنسيّة وأخرى مهنيّة. تسيرُ حياته وفقًا لهنّ، متنقِّلةً بين هاتين العقدتين اللتين شكَّلتا مسارين لكلٍّ منهما أبعاده السّياسيّة والاجتماعيّة المختلفة، والمنفصلة تارةً، والمتّصلةً طورًا.

حافظ صاحب "الجنتلمان يفضّل القضايا الخاسرة" في البداية على مسافةٍ كافية تفصل بين هاتين العقدتين بهدف عرض مآلات كلٍّ منهنّ على حدة، وتبيين وقعهنّ على حياة عياش. معتمدًا في ذلك على تفاصيل منمنمة اشتغل على توظيفها داخل النص بمهارة عالية جنّبته الخروج عن سير خطِّ الرواية الرئيسي. مستندًا أيضًا إلى لغة رشيقة جنّبته هي الأخرى الوقوع في فخِّ الملل والتكرار الذي تنصبه عادةً التفاصيل الكثيرة للرواية. وبالتالي، مكّنت هذه المسافة أحمد مجدي همّام من وصل هاتين العقدتين وفصلهما عن بعضهما حينما يشاء. قبل أن يُعاود لاحقًا الاشتغال على جدلهنَّ معًا لتتشكّل الصورة الكاملة للحكاية، وتبيِّن مساراتها ومصير شخوصها أيضًا.

عياش

تبدأ رواية "عياش" في منتصفها بالسير وفقًا لرغبة عمر عيّاش بالتخلّص من هاتين العقدتين. تضعنا هذه الرغبة وجهًا لوجه أمام الصورة الراهنة للمجتمع المصريّ، ولا سيما مؤسّساته الثقافيّة. ذلك أنّ التحوّل الذي يطرأ على حياة عيّاش وينقله من محرّرٍ صحافي إلى مخبر يقطع ممرّات وغرف الجريدة التي يعمل بها ذهابًا وإيابًا ليلتقط هفوات زملائه السّياسيّة؛ يؤكّد أنّ الثقافة، بمظاهرها البرّاقة، تنطوي على جوهرٍ لا يزال عفنًا كمستنقع.

سيبدو واضحًا أنّ عمل عيّاش في الجريدة جاء كوسيلة تُخلّصه من عقدته المهنيّة. أمّا عمله كمخبرٍ عند اللواء، فجاء كوسيلةٍ، لا للتدرّج في المناصب داخل الجريدة وحسب، إنّما للانتقال من كونه ضحيةً محتملة لطبقة الفاسدين، إلى شريكًا لهم، ضامنًا بذلك أنّه لن يكون ضحية بما أنّه صار جلّادًا. إلّا أنّ عودته السريعة إلى الحضيض، كما صعوده إلى الذروة، يُغيّر من هذا المفهوم لديه. ويعيد إلى الواجهة صورة مجتمع لا أمل بالنجاة من عفونته.

تعتني رواية "عيّاش" بالتفاصيل الصغيرة والهامشيّة التي تصوغ مصائر البشر

اقرأ/ي أيضًا: محمد ربيع.. ما حدث في يناير انتهى

لا تغيب عقدة عيّاش الجنسيّة وشكّه المستمرّ برجولته عن سير الحكاية، ذلك أنّها لا تكتفي بالحضور ضمن التفاصيل أو الأحداث وحسب، بل نجدها، غالبًا، مُحركًا لسلوك عيّاش، ولا سيما بعد فشله في تجاوزها عبر جسد نورا الذي استخدمه وسيلةً لذلك، بينما استخدمته نورا نفسها كوسيلةٍ لإعادة عيّاش إلى الحضيض مجدّدًا، موقفةً سلسلة انتصاراته على زملائه في العمل بعد كشف مؤامراته عليهم وتخلّي اللواء عنه. هكذا، سيتحوّل عياش إلى نجمٍ يفيسبوكي بفضائح متعدِّدة، قبل أن يجد نفسه مُحاصرًا مُجدّدًا بين عقدتيه الجنسيّة والمهنيّة، واللتين لا تخصّانه وحسب، بل تشملان مجتمعًا كاملًا يعيش نوعًا معيّنًا من الاحتضار.

نقل أحمد مجدي همّام إذًا صورة واقع المجتمع المصريّ كما هي، دون تجميل أو رتوش. متّكئًا على تجاربه الشخصيّة التي استثمرها في بناء عمارته الروائيّة هذه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إدوار الخراط.. سيرة انشقاق

لماذا عليك الآن قراءة رواية "أسوار" لمحمد البساطي؟