10-يوليو-2017

الكلمة الخامسة لـ أحمد الشرقاي/ المغرب

  • إلى روح أبي

- اذهبْ والعبْ قليلًا يا ولدي

- اترِكيني وشأنِي يا أمي

لن أعودَ ثانيةً لِلَّعبِ

سأجلس بمُفْردي أسفلَ الدَرَجِ

حتَّى يعودَ أبي من الغياب

- اذْهبْ لِلَّعبِ مع رفاقِكَ

منْتظِرًا رجوعَ أبِيكَ من الغيابِ

- قلتُ لكِ لنْ أعودَ ثانيّةً لِلَّعبِ

- لماذا يا ولدي؟

- كلّمَا جاءَ دوْرِي في اللّعبِ

لتصْويبِ الحجرِ على مربّعِ الحجَلَة

يتهامسونَ فيما بينهُمْ

على مسمعٍ منِّي بموتِ أبِي

أصيحُ بأعْلى صوِتِي

لا لمْ يمتْ أبي

أبي سافرِ بعيدًا

ليَجْلُبَ لنَا من هنالِكَ

هدايَا وحلوى في العيدِ المقبلِ

يرد عليَّ أكبرُهمْ

فلْتنْتظِر هدايَا العيدِ السّعيدِ

من أَبِيكَ الذِي ماتَ

في صَبِيحةِ الأحد

أمسكُ بخناقِهِ صائحًا بأعلى صوْتي

أنتَ تكذِب على أبِي

لا أحدَ يموتُ في الصّباحِ

الموتُ ينتظر حتىّ نذهبَ للنّومِ

ليسرِقَ أرواحَنا من تحتِ الوسائِد

هكذا تقول جدّتي

لقدْ كنتُ جالسًا ذلكَ الصبّاحِ

على مقربةٍ منْ أبي

على حافّةِ سريرِنا

لم يكنْ أبي يحْتَضِرُ

صبيحةَ ذلك الأحدِ

كان يَشْرَقُ فقطْ بكوبِ الحليبِ

و ملعقةٍ كبيرةٍ من العسلِ

تناولَها من يدِ أمي

هل حقًا كان يحْتَضِرُ أبي

صبيحةَ ذلكَ الأحدِ؟

- لا يا ولدي

لا أحدَ يموتُ في الصباحِ

الموتُ ينتظرُ حتّى نذهبَ للنومِ

ليسرِقَ أرواحنَا من تحتِ الوسائدِ

لا أحدَ يموتُ في يومِ السّبتِ أو الأحدِ

يكونُ الموتُ نهايةَ الأسبوعِ في عطلة

للاسْتِراحةِ من تسلُّقٍ دؤوب للسُطوحِ

متخفِّفًا من عُدَّةٍ تفيضُ بالقفازاتِ والأقنعةِ

لا لمْ يمتْ البابَا ذلك الصَّباحِ

كان يَشْرَقُ فقَطْ بكُوبِ الحلِيبِ

وملعقةٍ كبيرةٍ من العسَلِ

تناولهَا من يدِي

- لماذا لا ترْتدينَ يا أمي

سوى الأبيضِ من الثيّابِ؟

- أنتظرُ عودةَ أبيكَ

من الغيابِ

- مَتى يعودُ أبِي من الغياب؟

- حينَ أخلعُ ثيّابي البيضاء

- فلتخْلعيها الآنَ

- لا أستطيعُ أنْ أخالفَ وصيّةَ أبيكَ

بارتداءِ الأبيضِ حتّى يعودَ من الغيابِ

- هلْ هِي أُحْجِيةٌ من أحاجيكِ؟

أبي لن يعودَ

حتّى تخلعينَ الثيّابَ البيضاء

فيمَا لنْ تخلعي أبيضَ الثيابِ

حتّى عودةِ أبي من الغيّابِ

- لا تكنْ لحوحًا يا ولدي

سيعودُ أبوكَ من الغيابِ

- بالأمسِ تصفّحتُ مجلّدِ الصوَّرِ العتيقِ

رأيتُكما تجلسانِ معًا في صورٍ كثيرةٍ

لالتقاطِ تذكاراتٍ بالأبيضِ والأسودِ

لكنَّنِي لم أرَنِي بين فستانكِ وقميصِ أبي

على المقعدِ الذّهبِي

هلْ كنتُ في سفرٍ؟

فتأخّرتُ في العودةِ

من الغياب

فجلستُمَا معًا في صورٍ كثيرةٍ

لالتقاطِ تذكاراتٍ بالأبيضِ والأسْودِ

من دُوني على المقعدِ الذهبي

- نعمْ يا ولدي كنتَ مسافرًا

وتأخّرتَ في الرجوعِ من الغيابِ

- متى عدتُ يا أمي ؟

- عدتَ حين امتلأ بيتُنا بالبالوناتِ والزّغاريدِ

على عربةٍ صغيرةٍ تفِرُّ فراشاتُها من تطريزِ المناديلِ

- يا الله رجعتُ صغيرًا جدًّا من الغيابِ

هل كلُّ من كانَ غائبًا

عاد شابًّا صغيرًا من الغيابِ؟

- كلُّ من يغيبُ يشُبُّ في الغياب

- إذنْ سأنتظرُ رجوعَ أبي

شابًّا من الغياب

لنجلسَ ثلاثتُنا في صورٍ كثيرةٍ

لالتقاطِ تذكاراتٍ بالأبيضِ والأسودِ

على المقعدِ الذهبِي

اذهبِي للنومِ يا أمِي

- تعالَ للنومِ معي

- لا أريدُ النومَ يا أمي

سأظلُّ مستيقظًا بقربِكِ

لأحرسَ روحكِ حتى لا يسرقهَا

الموتُ من تحتِ الوسائدِ

- لا تخفْ يا ولدي

لن يسرقَ الموتُ روحيْنا

من تحتِ الوسائِدِ

سنخبِّئُ تحت رؤوسِنَا

سكّينًا مربوطَ التَمائمِ إلى المِقبضِ

لطردِ الموتِ من تحتِ الوسائدِ

تعالَ للنومِ معي

ها قد كبرتَ وصرتَ تفهمُ ما يُقالُ

- لا أريد أن أكبُرَ يا أمي

لا أريدُ أن أفهمَ ما يقال لي

أريدُ أنْ أظلَّ صغيرًا لأقولَ فقطْ ما أفهمُ

أريدُ أنْ أظلَّ صغيرًا على الدّوامِ

- كيفَ ستبقَى صغيرًا على الدّوامِ؟

- سأجلسُ تحتَ بندولِ ساعتِنا

المتوقّفةِ على العاشرةِ فراقًا

وعشرِ دقائقَ من الغرقِ البطيءِ

من صبيحةِ يومِ الأحدِ

منتظرًا رجوعَ طلعةِ أبي

شابًّا من الغيابِ

لا شأن لي بإثنينٍ أو ثلاثاء

لا شأنَ لي بأربعاء أو خميس

لا شأنَ لي بجمعةٍ أو سبت

بإصرارِ الولدِ الشقِي

على تجاهُلِ فهمِ ما يقالُ

ليقولَ فقطْ ما يفهمُ

حتّى يظلّ صغيرًا

فيتمكّنَ غيابُ الأبِ العائدِ شابًّا

من التعرّفِ بسهولةٍ على الولدِ الصّغيرِ

- هل تعرفُ يا ولدي

كانَ أبوكَ في شرخِ الشّبابِ

يتدفّقُ مثلَكَ في الكلامِ العاطفِي

فيما نجلسُ في صورٍ كثيرةٍ

لالتقاطِ تذكاراتٍ بالأبيضِ والأسودِ

على المقعدِ الذهبِي

قبل أن ننتبِهَ لانفراطِ الياسمينِ

في طوقِ الزّفافِ

ابْق كمَا أنتَ صغيرًا

دونَ أنْ تبتعدَ عن بَندولِ ساعتِنَا

المتوقّفة على العاشرةِ فراقًا

وعشرِ دقائقَ من الغرقِ البطيءِ

رجُلَ عمريَ الوحِيد

حتّى عودةِ أبيكَ شابًّا من الغيابِ

متدفقًا بالكلامِ العاطفِي

في شرخِ الشبابِ

*

 

أمّاه

ها قد خلعتِ ثيّابكِ البيضاء

وعاد بندول ساعتنا

المتوقّفة على العاشرةِ فراقًا

وعشرِ دقائقَ من الغرقِ البطيءِ

للنَوَسَانِ

عادتْ شجراتُ الليمونِ إلى حملِ

ثِقَلِ حموضةٍ زرقاء البرتقالاتِ

في حديقَتنا الصغيرةِ

على غِرارِ عيونِ أبي التِي تمادت

في ازْرِقاقِها منَ الغيابِ

فلماذا لا يعودَ أبي؟

أريدُ العودةَ إلى اللّعبِ

معَ الرفاقِ والأصدقاءِ

أريدُ الرجوعَ إلى تصويبِ حجرِي

على المربّعِ الشاغرِ للحياةِ

دائرًا بساقٍ على باقي المربّعاتِ

في رُقْعةِ الحجلةِ

غيرَ خائفٍ من همْسِ الرفاقِ

باستِحالةِ عودةِ أبي إلى البيتِ

أريدُ أنْ أستعيدَ نزقِي وطيْشي

أريدُ أنْ أستعيدَ شراسةَ الطفولةِ

بتكْسيرِ الجوزِ على البداهةِ والضّجرِ

بتقْشيرِ طزاجةِ الوقتِ في مَقْشَرةِ الحاضرِ

راميًا للقطّةِ الجائعةِ ببراءةِ عمرٍ ناضجِ

أحْكَمَ الغَلْقَ على تهْذِيبِي في عُلبةِ الثِّقابِ

خُذِيني إلى حيثُ يستريحُ أبي

على مقعدِ الغيابِ

مواصلاً شُربَ كوبِ الحليبِ

ممزوجًا بملعقةٍ كبيرةٍ من العسلِ

- سآخُذُكَ يا ولدي

إلى استراحةِ أبيكَ على مقعدِ الغيابِ

مواصِلًا شُربَ كوبِ الحليبِ

ممزوجًا بملعقةٍ كبيرةٍ من العسلِ

سأخُذُك إلى المكانِ الذي يُؤْوِيه

سآخذُكَ إلى مكانٍ لا يأتِي الموتُ إليهِ

- ما هوَ المكانُ الذي لا يأتِي إليه الموتُ؟

- .........................

متْرانِ من الاشتياقِ في مترِ فراقِ

عشبٌ من السَلْوَى يتدلّى على الحوافِّ

صحنُ ماءٍ مليءٌ محفورٌ في الحجرِ

للعصافيرٍ الزائرة بزَقْزَقاتِها وبصقاتِها بانتظامِ

لتلاوةِ الفاتحةِ

على شاهدةٍ غيرِ منقوصةِ الاسمِ والتواريخِ

تحت أمومِة الأيادي المفرودةِ في شجرةِ التينِ..

 

اقرأ/ي أيضًا:

الذين يأخذون أصابعي

انتهى الفيلم