27-يونيو-2022
من اليسار إلى اليمين: تريستان تسارا ، بول إيلوار ، أندريه بريتون ، جان آرب ، سلفادور دالي ، إيف تانجوي ، ماكس إرنست ، رينيه كريفيل ومان راي

تريستان تسارا، إيلوار، بريتون ، جان آرب، سلفادور دالي، إيف تانجوي، ماكس إرنست، رينيه كريفيل، مان راي

كما تركت الحرب آثارها العميقة على معظم شعوب الأرض تقريبًا، تركت في فرنسا، "تجاعيد عميقة" وجراحًا ثخينة، بعد الويلات والدمار والضحايا التي خلفتها. وإذا عرفنا أن مليونًا و400 ألف ضحية قد دفعتها فرنسا ضريبة لهذه الحرب، وإلى جانب الخسائر المادية الأخرى، والهزات الجذرية التي تعرضت لها مختلف القيم السياسية والاجتماعية والإنسانية (والتي ستظهر نتائجها مباشرة بعد انتهاء الحرب)، نعرف إلى أي مدى يمكن أن تتمخض هذه الحرب، على جميع المستويات.

أهمية الدادائية في أنها أطلقت الصرخة، أو بالأحرى مدت الصرخة التي كانت قد علت مع المستقبلية في إيطاليا 1909، ثم امتدت إلى بلدان أوروبية أخرى كإنكلترا

والحرب التي غيبت الملايين، لم تغفل بعض الشعراء والكتاب الذين قتلوا فيها مثل شارل بيغي والآن فورنييه، وأرنست بيسكاري وأبولينير- الذي توفي عشية انتهاء الحرب- وإلى هذا التغييب المادي لبعض الأسماء الأدبية، بدا أن الظروف التي رافقت الحرب وتلتها غيبت أيضًا أسماء أدبية، كانت تتمتع بحضور ما كأناتول فرانس وبرّيس وبول فور وفرانسي جيمس.. من كل هذا يمكننا أن نستخلص أنّه بدا، وكأن هناك تمخضات جديدة يمكن أن تفرزها الحرب العالمية الأولى: أولى مؤشراتها الدادائية وبعدها السريالية المدرستان الشاملتان اللتان هما محور حديثنا.

الدادائية: تلك الصرخة المضادة

أهمية الدادائية في أنها أطلقت الصرخة، أو بالأحرى مدت الصرخة التي كانت قد علت مع المستقبلية في إيطاليا (1909) "ثم امتدت إلى بلدان أوروبية أخرى كإنكلترا"، وتوازت مع نمو الأفكار الثورية وفي لهب الحرب العالمية الأولى. إنها "الصوت الفوضوي الطفولي الذي كان رغم عبثيته، بل ربما بسبب عبثيته صوت العصر الحديث... إنه صوت ذو نبرة مضادة ولغة مضادة" "هتفت دادا بسقوط الفن والاستيتيك، بل ودعت إلى إلغاء الفن والاستيتيك في ثورة من ثوراتها".

في الموسيقى تجاوز النوطة وإدخال الضوضاء والأصوات اللاموسيقية. وفي الأعمال التشكيلية تجاوز الجنفاصة وعناصر النحت المتمثلة بالرخام والجبس والخشب... إلا أن الدادائية لم تكن في كل هذا رائدة، بل يصح اعتبارها حركة انتقائية أكثر منها مبتكرة ولا سيما على الصعيد التكنيكي: لقد تأثرت بالتكعيبية (الكولاج والآلية) وبالمستقبلية (نزعتها الفوضوية والتخريب، موسيقى الضجيج، قصيدة الضجيج، الشعر الآلي...) وانفتحت على التجريدية. كما أنها شاءت أم أبت كانت امتدادا في كثير من جوانبها للتعبيرية.

وإذا كان عام 1916 البداية الرسمية للدادائية في زيوريخ فإنها لم تدرك رسميًا باريس إلا في عام 1920 حيث ألقى تريستان تزارا نماذج من شعره، وتلا على الجمهور مقالة من احدى الصحف تصاحبها موسيقى ضوضائية. واشترك في الحفل أيضًا بربتون، أراغون، سويو، أيلويار... وغيرهم، كما عزفت موسيقى لساتي واوريك وميلو وبولنك وكليكه وأقيم معرض بهذه المناسبة أسهم فيه الفنانون جوان غري ودي كيريكو، وليجيه، وبيكابيا، وديسانييه..

هذا المجيء إلى باريس، صحيح أنه كان بداية غزوها للمدينة الفرنسية ولكنه في الوقت ذاته كان نهاية الغزو، بل كان مؤشر انتهائها كمدرسة مستقلة وخضوعها لغزوة كبيرة استوعبتها وان خرجت من رحمها، وهي الغزوة السريالية. في هذا الإطار يمكن القول إن السريالية أكثر من امتداد للدادائية، وأكثر من تطوير لبعض وجوهها، إنها ثورة طمحت إلى التكامل وشكلت في أكثر من جانب ثورة على الثورة الدادائية. ثورة تطمح إلى الجذرية في مواجهة العالم، وإلى الشمولية في نظرتها إليه وعلى طريقة مات الملك عاش الملك، فما أن أعلن موت الدادائية في 1922 وضمن احتفال رسمي على الطريقة الدادائية نفسها، حتى أعلن في الوقت ذاته ولادة السريالية في حوالي 1922.

السريالية: ظاهرة شاملة

إذا كانت السريالية - والتسمية لأبولينير - قد برزت بين 1922 – 1932 كحركة واتسعت دائرتها حتى تجاوزت فرنسا إلى أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وتحولت إلى ظاهرة فنية واجتماعية، فإنها مرتبطة إلى حد كبير بتراث مباشر يمتد حتى القرن التاسع عشر (بودلير، رامبو، لوتريامون...) وإلى المدرسة الأكثر التصاقًا بها وتأثيرًا فيها: وهي الدادائية، ومن ناحية أخرى فقد سبقتها ومهدت لها التكعيبية والمستقبلية سواء عن طريق الدادائية أم الاتصال المباشر.

مان راي وتسجيل جلسة أحلام اليقظة 1924
مان راي خلال تسجيل جلسة أحلام اليقظة 1924

أما الظروف التي أحاطت بقيام هذه الحركة والأسباب التي دفعت إلى نشوئها فقد كانت أساسًا الأجواء التي هيمنت على أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى مع كل ما رافقها وأسفر عنها من ويلات ودمار وأهوال، في المادة وفي الروح، مما أوجد عند هؤلاء الشعراء والفنانين، وخاصة الذين عايشوا هذه الحرب وشاركوا فيها كبريتون وايلويار واراغون وسوبو، وخرجوا منها في حالة من القرف والاشمئزاز، اتجاهًا عدميا لرفض هذه الحضارة التي فقدت رشدها وافترست نفسها.

ولم تقتصر هذه العدمية الجذرية على الفن بل شملت مجمل المظاهر الحضارية، مما دفعهم إلى محاولة تدمير كل القيم السائدة المرتبطة بها: فالعقل الإنساني الذي حاول تغيير العالم وجد نفسه عاجزًا عن تغيير الانسان، بقي هذا الأخير رهين اختراعاته التي صنعت منه وحشًا عاقلًا. من هنا رفضوا العقل والمنطق ومجمل المقولات ومفهوم الزمان والمكان التقليدي، على أساس أنها الحقائق الوحيدة الحية لأنها ليست أكثر من أطر محدودة ووسائل عملية موقتة تساعد الإنسان على تحقيقه عمله. وفي رفضهم لمجمل هذه المظاهر الحضارية الجامدة والمحدودة رأوا في اكتشافات فرويد حلولًا مهمة، خاصة في توجهاته نحو عوالم اللاوعي ومناطق الظلام في النفس وفي الحلم، خصوصًا باعتبار أن اللاوعي ولا سيما الحلم: "باب من أبواب الحقيقة"، ومظهر من مظاهر الجمال. وهكذا ومن خلال مجمل هذه الظروف والظواهر انطلقوا في ثورتهم على الواقع إلى الحلم وعلى الوعي إلى اللاوعي وعلى الاشكال الثابتة إلى الحركة المستمرة والتدمير الدائم للقيم التقليدية. وقد حاولوا إعطاء هذه الثورة بعدًا جذريًا يتناول مهمة تغيير العالم برمته. هذا كان طموح السريالية الذي لم يتحقق فيما بعد: بناء علاقات جديدة على أنقاض العلاقات السائدة ورفض كل الأطر الثابتة.

إنّ السريالية لم تقتصر على ميدان دون الآخر من الميادين الأدبية والفنية بل بدت وكأنها حركة شاملة استوعبت مختلف هذه التوجهات بما فيها أنماط السلوك الإنساني والاجتماعي

من هذه المنطلقات تكونت مجمل الأسس التي قامت عليها عناصر التقنية السريالية ومنافذ توجهاتها: فإذا كانت السريالية تمردًا على الواقع المفروض، والمرتبط أساسًا بمنطق الحضارة العقلانية والآلية بأسبابها ونتائجها، وارتهان الإنسان بها وانسحاقه أمامها وبمختلف القيم المنبثقة عنها، فإن وسائل مواجهة هذا العالم أو الخروج عليه أو تدميره لا يمكن أن تتم إلا من خلال فضح زيف الواقع الموضوعي السائد والتحريض عليه. ولعل من أهم الوسائل التي لجأ اليها السرياليون في محاولاتهم هذه أولها الفكاهة التي تكشف تفاهة هذا الواقع وتشكل نقيضه وتسعى إلى تدمير علاقاته العادية من خلال تجاوز مظاهره الهامشية وولوج داخلها، وتحرير الانسان عبر المخيلة حيث ينحني العقل أمام الخيال لينفتح عالم من الصور والغرائب. وثانيها العامل المدهش الذي يتولد من تغيير الواقع تخطيه ومحاولة إيجاد علاقات جديدة بين الأشياء تؤدي إلى نوع من الغرابة والمناخات السرية. وثالثها الحلم "هذا الكنز العظيم" الذي اعتبره السرياليون وجهًا آخر حقيقيًا للواقع الإنساني. نضيف أيضًا الجنون الذي يبدو ردة فعل طبيعية على توازن هذا العالم الظاهري وزيفه الداخلي.

وأخيرًا يبرز دور الكتابة الآلية في تسجيل مجمل حالات الحلم والجنون واللاوعي تسجيلًا صادقًا من دون أي تغيير يتأتى من هم جمالي أو فكري أو فني.

إنّ السريالية لم تقتصر على ميدان دون الآخر من الميادين الأدبية والفنية بل بدت وكأنها حركة شاملة استوعبت مختلف هذه التوجهات بما فيها أنماط السلوك الإنساني والاجتماعي.

وإذا كانت السريالية قد أعطت أهم عطاءاتها في الشعر وتمثلت بأهم شعراء هذا العصر، فإنها إلى ذلك أسست اتجاهًا خاصًا بها في فن الرسم والملصقات والسينما والمسرح والنحت والتصوير الفوتغرافي. ففي الشعر، وحتى في الفنون عامة، أنكر السرياليون قبل كل شيء الموهبة. فالسريالية كما يقول بريتون في متناول اللاواعين كلهم، والشعر السريالي ما عاد يعبر عن أفكار أو عواطف كما يقول نزار بل يعبر عن نشاط نفسي والمهم ألا يقطع هذا التيار الداخلي هم فني أو جمالي، بل المهم إدراك المجهول بحيث يتحول الشاعر إلى راء عبر تشويش عام لكل حواسه، واقترابه إلى حد كبير من الحالات الصوفية.

من هنا إن السرياليين رفضوا التشكيل الشعري، ورفضوا كل أنواع البناء الهندسي، ورفضوا بذلك مفهوم القصيدة كعملية تأليف أو تنظيم، وكل جهد إرادي في العمل مركزين على الكتابة الآلية التي تتخذ شكل أو لا شكل الحالات الداخلية. وهذا ما أعطى الأهمية الأولى للتعبير بالصورة، باعتبار أن هذه العوالم الداخلية لا يمكن استخراجها بلغة تقليدية خارجية، بل بصور هي من طبيعتها مهما أغرقت في الغرابة والطرافة والتناقض.