12-يناير-2025
قلعة المرقب في طرطوس

(Getty) قلعة المرقب في طرطوس

في مثل هذا اليوم، قبل سنوات عديدة، كانت النيران ترتفع في غالبية قرى الساحل السوري، معلنةً نهاية الخصومات وبدء الاحتفال الذي كان يستمر أحيانًا لسبعة أيام بعيد "القوزلة"، وهو عيد رأس السنة الشرقية.

محمد، 67 عامًا، فلاح من ريف مدينة جبلة، اعتاد جمع عائلته في هذا اليوم، حيث يدفع أفرادها ثمن الذبيحة، وغالبًا ما تكون خروفًا قبل عدة أشهر، ومن ثم يقومون بتسمينه استعدادًا لذبحه يوم القوزلة. يقول لـ"الترا صوت"، إنه ومنذ نحو 4 أعوام تخلّوا عن شراء الخروف لصالح شراء عدة كيلوغرامات بدأت هي الأخرى بالتناقص. فابنه، الذي كان يشتري 2 كيلو لحم عام 2021، قلّصها إلى كيلو واحد، وابنته أصبحت تحضر معها كيلوغرامًا بدلًا من 3 كيلو.

هذا العام، قرر محمد التخلّي نهائيًا عن الاحتفال بشي اللحوم. ورغم أن أبنائه يستطيعون شراء كميات بسيطة والاجتماع على مائدة الاحتفال، إلا أن غالبية جيرانه لا يستطيعون إتمام طقس شي اللحوم نتيجة الظروف المعيشية السيئة حاليًا. وفي عرف أهل القرى، ليس من المحمود التباهي بتناول الطعام الفاخر إذا لم تستطع إطعام جارك الجائع.

عدا عن ذلك، فضلت العائلة شراء 2 كيلو لحم، وإعداد الكبة المقلية، على أمل أن تتبدل الأحوال العام القادم، وتصبح اللحوم بمتناول اليد، دون أن تتحوّل إلى طبق أرستقراطي صعب المنال.

في عرف أهل القرى، ليس من المحمود التباهي بتناول الطعام الفاخر إذا لم تستطع إطعام جارك الجائع

ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأت طقوس القوزلة بالاندثار شيئًا فشيئًا، حتى لم يتبقّ منها سوى طقس شي اللحوم الحمراء، الذي بدأ بالاندثار تدريجيًا نتيجة الأزمة المعيشية الخانقة وارتفاع سعر الأضاحي لأكثر من 3 ملايين ليرة للخروف الواحد، والذي كان سعره قبل عام 2011 لا يتجاوز 5000 ليرة.

ومع ذلك، كان بعض الميسورين من أبناء القرى يذبحون العجول ويوزعونها على أبناء قريتهم، بحيث يضمنوا أن يتناول الجميع اللحم المشوي ويشعلون النيران.

 

احتفال خجول

أقنعت ديمة (32 عامًا) عائلتها الصغيرة في ريف بانياس بالاحتفال عبر شي اللحوم التي تكفلّت بشراء 4 كيلو منها، مستثمرةً انخفاض سعرها عما كان عليه العام الماضي.

تقول ديمة التي تعمل مدربة رياضة عن بعد، إن سعر كيلو لحم الخروف انخفض من 200 ألف العام الماضي إلى 160 ألف هذا العام، والعجل من 180 ألف إلى 140 ألف ليرة. وأضافت أنها دفعت نحو 20% من راتبها لشراء مستلزمات الاحتفال، بينما قامت والدتها بإعداد الخبز الخاص بهذه المناسبة، والذي يُدعى "خبز الميلادي"، حيث يتم دهن العجين بزيت الزيتون بكثافة، ومن ثم لفه على شكل رول وإعادة فرده قبل خبزه في التنور أو على الصاج.

تحب الشابة هذا الطقس، وتعتبره جزءًا لا يتجزأ من العام، لا تعلم لماذا، إلا أنها حريصة على الحفاظ عليه طالما تستطيع. ومع ذلك، تخلى كثيرون هذا العام عنه بشكل نهائي، وباتت هذه الليلة كأي ليلة أخرى في حياتهم، من دون أي طقوس. أما آخرون، مثل زبيدة (71 عامًا)، وهي سيدة ريفية من بانياس، فقد اكتفوا بتحضير خبز الميلادي على التنور.

تقول زبيدة إنها لا تزال تتذكر الاحتفالات بشبابها، والتي كانت تستمر لمدة سبعة أيام، تعقد فيها حلقات الدبكة وتشعل النيران، مع ذبح الكثير من الأضاحي التي كانت متوفرة حينها بخلاف اليوم.

 

نهاية الخصومة مع بداية العام الجديد

يقول الباحث التراثي حيدر نعيسة لـ"الترا صوت"، إن الاحتفال بعيد القوزلة، وهو عيد رأس السنة الشرقي، ولا يحمل أي دلالة دينية، يبدأ من مغيب شمس يوم 13 كانون الثاني/يناير بإشعال النيران وذبح الأضاحي.

ويضيف أنهم كانوا يأخذون فيما مضى رماد النيران وينثرونه في الحقول والأراضي، اعتقادًا منهم أنه يزيد من بركة الأرض ومواسمها. كما أوضح أن لهذا العيد بُعد اجتماعي مهم، حيث كان أحد أهم طقوسه إنهاء الخصومات، فيجتمع وجهاء القرية ويصالحون المتخاصمين إن وجدوا، لأنه من الضروري بدء العام بالمصافحة والتسامح وإنهاء الخصومات مهما كانت كبيرة ومن ثم التوجه إلى زيارات المقامات الدينية.

وتتعدد معاني كلمة "القوزلة"، ففي الآرامية تعني البداية، وفي الكنعانية تعني نهاية شيء وبداية آخر. أما في الأشورية فتعني إشعال النيران، بحسب الباحث، الذي أكد أنه لا يوجد أي دلالة لربط هذا العيد بأي حدث ديني أو تاريخي.

يقول إن البعض يعتقدون بوجود جذور تاريخية لهذا العيد، فقسم ينسبه لنجاة سيدنا إبراهيم من نار النمرود، لذلك تشعل النيران تيمنًا. بينما ينسبه آخرون إلى قربان هابيل الذي التهمته النيران دون أن تلتهم قربان أخيه قابيل. رغم ذلك، يؤكد الباحث أنه لا يمكن إثبات ذلك النسب.

الاحتفالات كانت تستمر لسبعة أيام من 13 وحتى 19 كانون الثاني/يناير، الذي يمثل يوم القداس، حيث يذهب الشباب إلى أقرب نهر أو إلى البحر في ساعات الصباح الأولى ويستحمون فيه، رغم برودة الجو، حيث كان يقال إن الاستحمام في هذا اليوم يجلب الصحة والعافية والطهارة للجسد.

القوزلة ليس العيد الوحيد الذي يحتفل فيه أهالي الساحل السوري، فهناك عيد البربارة في 16 كانون الأول/ديسمبر، الذي يقومون فيه بطهي الحنطة مع اللحم على نار الحطب فيه، لصنع أكلة "القمحية" أو "الهريسة". وبحسب الباحثين، فإن هذا العيد يعد جزءًا من أسطورة الخصب لدى السوريين، ويدعى عيد البر، والبر كلمة تعني القمح والشعير.