18-مارس-2022
عواد ناصر

الشاعر عواد ناصر

في عبارةِ عواد ناصر كما في صوته حشرجةٌ مقيمة. يريدُها ولا يريدُها نسمعُها عندما نقرأ قصائدَه بصوتٍ عالٍ فهيَ عنصرٌ غالب على شعره كما يُقال في الوراثة عن كروموسوم غالب في نقل الصّفات والطبائع.

يمكننا القول بأنّ هذه الحشرجة هي إرثه الغنائيّ من السيّاب. ما يحضرُ في بالي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات مشهده حين كنّا معًا في البصرة قرب تمثال السيّاب وقد التقطتُ له صورة وهو يمدُّ يدهُ ليصافح السيّاب.

يطفو النصّ لدى عواد ناصر على بحيرة من الحنين. الحنين بمفهومه المطلق، الحنين للماضي، للوطن، للأهل، وحتّى للمستقبل. كلّ عشق لديه يأخذ شكل الحنين.. إنّه دخان روحه الملتهبة أبدًا يصّاعد في كلّ ما يكتب.

 

ومن الشّعر العموديّ بدءًا بالمعلّقات وحتّى الجواهريّ، لكن ليس هذا فقط بل هناك الشّفافيّة العالية وطبقات الوجد الّتي تنثالُ وتتكسّر مع انثيالات التفعيلة وترانيمها وهي عنصر غالب ثان عنده.

هما متلازمتان شعريتان؛ لابدّ للحشرجة من إيقاع وشفافية ليظلّ البيت الشعريّ عند عوّاد ماسكًا بأرض القصيدة.

يطفو النصّ لدى عواد على بحيرة من الحنين. الحنين بمفهومه المطلق، الحنين للماضي، للوطن، للأهل، وحتّى للمستقبل. كلّ عشق لديه يأخذ شكل الحنين.. إنّه دخان روحه الملتهبة أبدًا يصّاعد في كلّ ما يكتب.

عثر عواد ناصر على قيثاره في القصيدة ولم يفترقا. صارت القصيدة قيثاره والقيثار قصيدة وظلّ العازف يقفز من إيقاع إلى إيقاع ومن مدينة إلى مدينة ومن حلم إلى واقع هكذا في أطلس روحيّ شعريّ خاصّ به.

ديوان الرّسائل

دخل ميدان السياسة يساريًا شيوعيًا اضطرّ مثل العديد من رفاقه أن يقضم خبز المنافي والغربة القاحلة في جبال كردستان ومن ثمّ سوريا حتّى استقرّ في لندن. لكنّ كلّ هذا التّطواف بالرّغم من التّباعد الجغرافّي والثقافيّ فيه لم ينأ به عن منطقة النّص الأوّل الّذي ولد فيه، بل على العكس فقد أذكى عصف الحنين فيه.

عواد العاشق يكتب كما يبكي ويبكي كما يكتب لان ريشته أقرب الى شغافه منها الى الصفحة.

التقيته مؤخّرًا في القاهرة في معرض الكتاب الاخير وكان حاضرًا من لندن لتوقيع ديوانه "ديوان الرّسائل" الصّادر عن دار أروقة. قلت له سأتركك تقدّم مختاراتك ديوانك وتختار النّصوص التي تريدها لهذه الصفحة وكنت أريد - كما فعلت في كتاب في جريدة - أن أترك الشّاعر يختار هو من نصوصه، ويقدّم لها. أتذكّر أنّها كانت تجربة ناجحة، حين تركت عبد الوهّاب البيّاتي وسعدي يوسف ونازك الملائكة يختارون نصوصهم ويقدّموا له.

هي قصائد مرفقة بتقديم أنشرها هنا في زاويتي الأسبوعيّة، في محبة الشّعر وأهله، تسلّط الضوء اليوم على عواد ناصر، شاعر الغربة العراقيّة، وتترك له المجال ليحاور نفسه في هذه المساحة الشّعريّة الرحّبة في ألترا صوت.

*

كل كلمة مكتوبة، مرسومة، على حجر أو جذع شجرة أو ورقة أو ملقاة على رصيف، هي رسالة، وإن لم يقرأها أحد.

وكل رسالة هي خطاب موجّه إلى متلقٍّ، معروفٍ أو مجهولٍ، من الإعلان التجاري عن مادة تجميلٍ حتى أشهر ملحمةٍ في التاريخ.

السومريون، مخترعو الكتابة، أوّل من اخترع وسائل التواصل الاجتماعيّ فتركوا للبشريّة أهم الرسائل وأجملها، والبابليّون تركوا أوّل قصيدة حب منذ ثلاثة آلاف عام كتبتها امرأة.. وقد أكون حفيد أولئك المبتكرين.

كل كلمة مكتوبة، مرسومة، على حجر أو جذع شجرة أو ورقة أو ملقاة على رصيف، هي رسالة، وإن لم يقرأها أحد

 

منذ طفولة قصيدتي كنت أبحث عن "وطن لجوء" يتيح لي أن أكتب رسائلي بحرّية إلى العالم فكان هذا الوطن الذي اسمه الشعر.

"ديوان الرسائل" أخذت عنوانه من تلك المؤسسة العربية التليدة "ديوان الرسائل" وهي دائرة البريد، ومن أشهر من تولاها شيخنا الجاحظ، البصري، العباسي، وهو ديوان لا يدخل في باب "أدب الرسائل" التقليدي، الذي سجل فيه أدباء العالم وفنانوه وعلماؤه رسائلهم إلى حبيباتهم أو أهلهم أو أصدقائهم.

الحق، انبثقت فكرة هذه الرسائل من أشدّ حالات العزلة التي اكتنفتني في السنوات الأخيرة، كمحاولة لردم هذه العزلة التي ما زالت ماثلة حتى كتابة هذه الكلمات، وإن خفّت كثيرًا بعد الانتهاء من كتابة هذا الديوان.

بعض هذه القصائد كان يُملى عليّ أثناء نومي، من مصدر مجهول، لأصحوا كي أدونها في دفتر جوار وسادتي، وهذا يحدث غالبًا، وما زلت حائرًا، مرتابًا، بجملة من كلمتين أمليتا عليّ ذات نومةٍ هما "مبددو الغيوم!".

إزاء "مبددو الغيوم" لم أزل حائرًا، مرتابًا، لكنني خدعت نفسي، ببعض الثقة بتخريج ما يفضي إلى أنهم كل أولئك الذين اجترحوا ما اجترحوه نحو الضوء والصحو والجمال، عبر تاريخ الإنسان: منذ أول مبدد للغيوم حك حجرًا بحجر ليكتشف تلك الشرارة، حتى الطفل الذي لم يولد، بعد، ليضيف قصيدة جديدة إلى شعر العالم أو أغنية مختلفة لأسماع البشرية.

العربي-التلفزيون

هكذا توصلت، بلا أي يقين قاطع، إلى تخريج تلك الجملة/ الكلمتين بإن "مبددو الغيوم" هم كادحو الفن والأدب والعلم الذين يصنعون صحو العالم بمغامراتهم الشاقة، المجنونة، المتنوعة، الغامضة.

في أية باب يدخل هذا الديوان؟

ليس مهمًا أن نجد له بابًا لندخله فيه، لكننا قد نجد له "كوّةً ما" في أشد الجدران صلابةً.. وما أكثر الجدران الصلبة التي تطوّقنا. أغوتني تجربة هذا الديوان باختبار الحياة اليومية على مدار يومي الملتبس وعاطفتي المنقلبة على مدار الساعة عبر مخاطبتي أحدًا ما على هذه الأرض، أعرفه أو لا أعرفه.. أوَ ليست القصيدة نوعًا من اختبار العلاقة مع العالم؟


الرسالة الخامسة عشرة

 

قُبلتُكِ

ثلجٌ خفيفٌ يلحسُ النافذةَ

زقاقٌ

سوقٌ شعبيّةٌ

تماثيلُ سيراميكَ صغيرةٌ

يبيعُها نحاتونَ هواةٌ.

العراقيُّ اللاجئُ يعدُّ العملةَ الأجنبيّةُ

ويخطئُ العدَّ.

عجوزٌ أفريقيّةٌ تغادرُ الباص

بعد أن نسيتْ عكّازها في الكنيسةِ

لم يسألْ أحدٌ عن حقيبةِ اللّيلِ

التي أعدّها اللاجئُ العراقيُّ لرحيلٍ مقبلٍ

لا شمسَ هذا الصباحَ

لأنّ الثلجَ - كما قلتُ لكِ – يلحسُ النافذةَ

غيمةٌ على هيئةِ خروفٍ

في رقبتِهِ جرسٌ

نادرةٌ قُبلتُكِ

مثل نورسٍ يغرقُ.

الرسالة السادسة عشرة

 

ديڤيد

 

جاري الجامايكي الذي اسْمُهُ ديڤيد يدخّنُ أعشابًا غريبةً

يحاور نَفْسَهُ بلهجتِهِ المحليّةِ.

الحانةُ في آخرِ الليلِ بلا أسرارٍ

قمرٌ رماديٌّ نسيَهُ حارسٌ نعسانُ في المرآبِ.

الصليبُ في جيدِ النادلةِ الشقراءِ يتحرّشُ بالنبيذ

جاري الجامايكي، الذي اسمه ديڤيد، ارتقى أمسِ برجَ الكنيسة (البروتستانتية)

في ويست كنجستون ليصلحَ ساعتها العاطلةَ،

سقطَ من برجِ الكنيسةِ وماتَ

دفنوهُ الْيَوْمَ بعد الظهرِ.

 

تسوّقٌ

 

على بسطاتِ ويست كنجستون،

سمكٌ مجمّدٌ وثومٌ وباميا طويلةٌ جدًا مثل موزٍ أخضرَ

البائعُ الصغيرُ عاد من مدرسته بعد الظهرِ

ليساعدَ أمّهُ الأرملةَ

باص أحمر بطابقينِ

حدوةُ الحصانِ (اسمُ الحانةِ)

فيلٌ خشبٌ صغيرٌ على أريكةٍ ڤيكتوريةٍ

أغنيةٌ لفيروزَ من محلّ بائعِ أقراصٍ مدمجةٍ

ظننتُهُ سوريًا

قال: لا، أنا مغربيٌّ، من كازا

من يعرف يتسوّق فيروز في ويست كنجستون.

 

الرسالة السابعة عشرة

 

بقيّةٌ من قدميكِ الحافيتينِ

على بلاطِ الغرفةِ

حقيبتي تحتَ السريرِ بانتظارِ قطارٍ لا بُدَّ منه،

وأنتِ أكثرُ من عشرِ ليموناتٍ في سلّةِ فِضَّة

أنا موتٌ يتآمرُ على نفسِهِ

بينما أعدِّدُ أنفاسَكِ على عُنُقي

مناقيرَ حساسينَ خجولةٍ

قبلةٌ طويلةٌ تلمعُ

سكّةُ قطارٍ في الظهيرةِ

الحبُّ لم يعدْ متداولًا

إلا في لغتِكِ

ولغتي

في قبلةٍ طويلةٍ كسكةِ قطارٍ في الظهيرةِ.

 

موسم الغزل

 

النجومُ كاللصوصِ

لا تعملُ في الليل

تعملُ نهارًا في أمكنةٍ أخرى

ما زلتُ آخذُ بنصيحةِ أُمِّي:

كي تنامَ جيدًا عليكَ بعدِّ النجومِ

حتى في قيلولتِكَ

لا تتحرّشْ بـ"بناتِ نعشٍ"

الظهيرةُ العراقيةُ موسمُ الغزلِ المختفي

خلفَ البابِ المواربِ.

 

في لندن

 

في لندنَ الكبرى الكثيرُ من بغدادَ

الحافلةُ الحمراءُ ذات الطابقينِ

بيرةُ الهولنديّة

مسروقاتُ المتحفِ البغدادي

تظاهرةٌ صامتةٌ لمسلمينَ بجلابيبَ بيضاءَ قصيرةٍ ولحىً طويلةٍ

(حقُّ التعبيرِ عن الرأي مكفولٌ)

في الاتجاهِ المعاكسِ

أمٌّ عراقيّةٌ بالزيِّ الأسودِ التام

تدفعُ عربة طفلها

الذي سيجندونهُ في الحربِ المقبلةِ.

 

الرسالة الثامنة عشرة

 

أقولُ لي

أقولُ لكِ

لم يزلِ حبنا لم يفسدْهُ الماكياجُ

خمسونَ قصيدةً على الرفِّ

في جيبي ما يكفي لشراءِ قنينةِ نبيذٍ وعلبةِ دخانٍ

النخلةُ السعيدةُ تطبخُ التمرَ لأحفادِ الحقلِ

أنتِ في سريركِ، حتى لو كنتِ وحدَكِ، دافئةٌ تحتَ الثلجِ

درّاجتي الهوائيّةُ في تدرّبُ جناحيها بانتظارِ ربيعٍ يائسٍ.

 

  • تحت عنوان "جهة الصمت الأكثر ضجيجًا"، يطلّ الشاعر شوقي عبد الأمير على قرّاء ألترا صوت أسبوعيًا في حديث أو مقالة في محبة الشعر وأهله.