11-يوليو-2019

كانت السلطات الفرنسية على علم بتنسيق أحد الشركات الفرنسية مع داعش (Getty)

عادت قضية فرع شركة Lafarge Holcim الفرنسية في سوريا إلى الطفو على سطح الرأي العام، قبل فترة، حيث نظرت استئنافية باريس في طلب النيابة العامة بإسقاط تهم "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" عن الشركة المذكورة. مبقية على التهمتين الفاضلتين؛ تمويل الإرهاب وتعريض حياة مستخدمين للخطر.

سعى كلّ من الادعاء العام ووزارة العدل الفرنسية مؤخرًا إلى إسقاط تهمة التواطؤ في جرائمَ ضد الإنسانية عن لافاراج سوريا، بدعوى "عدم توفر أدلَّة دامغة على ذلك، ومحدودية مسارات التحقيق"

في وقت تخوض القضية التي عرفت أول انفجارها سنة 2016 سيرورة التحقيق والمحاكمة حسب الشريعة الفرنسية، خالقة زخمًا لا فقط في عالم المال والأعمال، بل سجالًا سياسيًا بدخول الحكومة الفرنسية على خط حماية الشركة المذكورة. من هكذا منظور نعيد سرد خيوط القضية التي امتزج فيها رأس المال الفرنسي  بالدم السوري، وويلات الإرهاب صارت أداة لاحتكار سوق الإسمنت في المنطقة.

اقرأ/ي أيضًا: منظمة فرنسية تنشر تسريبات استخبارية عن سلاح باريس في حرب اليمن

بداية القصة

سنة 2010، دخلت شركة Lafarge Holcim الفرنسية المتخصصة في صناعة الإسمنت إلى السوق السورية، مندمجة مع "السورية للإسمنت" الشركة التي كان قد أسسها في وقت لاحق رجل الأعمال فراس طلاس ممثلًا للجانب السوري وبتوجيهات مباشرة من بشار الأسد، بصحبة رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس وشقيقه ناصف مالك أوراسكوم للإنشاء والصناعة. بموجب اتفاق الاندماج امتلكت Lafarge Holcim حصة الأخوين ساويرس في مصنعها المتمركز بمنطقة جلابية شمال شرق البلاد، فيما بقيت حصة الطلاس في حوزته بما يضمن قانونية الشركة واحترامها لقانون الاستثمار السوري الذي يشترط على المستثمر الأجنبي أن يشترك مع نظيره المحلي.

بعد أن يغير طلاس نفسه موقفه ضد النظام السوري إبان الثورة سنة 2011، سينتهج ذات النظام اتجاهه إجراءات تأديبية جُرد بموجبها من حصته في لافارج سوريا، والتي أممتها الدولة استنادًا إلى حكم محكمة تدين رجل الأعمال المذكور، ونجل وزير الخارجية الأسبق، بتمويل الإرهاب.

في تلك السنة عرفت أسعار الإسمنت انفجارًا كبيرًا، فيما تعطلت عجلة إنتاج المادة مع اندلاع شرارة النزاع المسلّح، وصولًا إلى 2013 ومع اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية شمال شرق سوريا، ظلّ مصنع لافارج سوريا والواقع في مناطق نفوذ التنظيم الإرهابي محافظًا على خط إنتاجه دون بقية المصانع، محتكرًا سوق الإسمنت في البلاد. احتكارٌ يطرح عديدًا من الأسئلة، والجواب واحدٌ: لم يكن ليدوم اشتغال المصنع يومًا واحدًا لولا العلاقات التي ربطتها إدارته، عبر سماسرتها، مع التنظيم المسلح وتنظيمات أخرى مشاركة في الاقتتال الأهلي.

علاقات تمحورت حول التزود بالنفط الداعشي، كما دفع إتاوات للجماعات المسلحة من أجل ضمان حماية الأشخاص والمباني والشحنات الداخلة والخارجة من المصنع. بلغة أخرى تحولت الجماعات الإرهابية إلى شركة أمن، أشبه بنظام الفتونة القديم، في يد عملاق الإسمنت العالمي. في تهاون تام بسلامة عمالها، بل وأكثر، حيث يشتبه في تورط ذات الشركة في تسهيل استيلاء داعش على مخزن مواد كيماوية في ملكيتها، هذه المواد التي يمكن أن تستغل في تصنيع عبوات ناسفة ورؤوس صاروخية.

مراسلات وأدلّة

في سنة 2016 فجرت الصحافة الفضيحة التي هزت الاقتصاد الفرنسي، حيث كشفت صحيفة "زمان الوصل" السورية المعارضة عن مستندات توضح تورط الشركة في التعامل مع الجماعات الإرهابية، في تحقيق من أجزاء، وفي قصة أبطالها: فريديريك جوليبوا الرئيس التنفيذي الحالي للافارج سوريا و برونو بيشو رئيسها التنفيذي حتى أواسط 2014، بالإضافة إلى ممدوح الخالد مدير مصنع الجلابية، وكل من النرويجي جايكوب ويرنس موظف أردني باسم أحمد اللذين لعبا دور سماسرة العلاقات بين داعش والشركة، وأحمد.ج واجهة الوصل المالية بين التنظيم ولافارج سوريا وواحد من أهم موردي النفط إليها، حيث تقوم الشركة بإصدار سندات دفع مستحقات النفط باسم هذا الشخص، الذي ينحدر من الرقة.

في 13 من تموز/يوليو 2014، كتب مدير المصنع إلى رئيسه التنفيذي يحذره من تزايد اللغط المثار حول شراء لافارج سوريا النفط من جهات غير "شرعية". ليرد الرئيس التنفيذي مذكرًا موظفه بضرورة وجود هذه العمليات المشبوهة، ومحرضًا إياه لممارسة ابتزازٍ للنظام السوري بدفع الضرائب إذا ما حاول الضغط أكثر، في مراسلة نشرها تحقيق الجريدة المذكورة. ويورد في موضع آخر مراسلة أخرى تعود لنفس الشهر، هذه المرة من المدعو أحمد.ج ناطقًا باسم تنظيم الدولة الإسلامية، ومنبهًا إدارة المصنع مغبة تأخرها عن دفع 7.655 مليون ليرة سورية (ما يعادل 51.2 ألف دولار أمريكي) كمستحقات متأخرة عن شحنة نفط تسلمتها، محذرًا بأن الشركة "تتعامل مع الجيش الإسلامي الأقوى على الأرض، ولذلك فإن على الشركة أن لا تفسد العلاقة معهم"، كما جاء في نص الرسالة.

بالمقابل لم تكن لهذه التعاملات اتجاه واحد، بل إن الشركة كما كانت تستورد النفط من التنظيم كانت تزوده بشحنات الإسمنت التي يحتاجها لأغراضه، مدنية كانت أم عسكرية، كما يوضح ذلك تصريح مرور شحنة إسمنت من مصنع جلابية إلى متاجر داعش.

ويؤكد أول تحقيقٍ صحفي في القضية على أن العلاقة مع مختلف التنظيمات المسلحة، كانت بعلم وتوجيهات فرنسية من الشركة الأم Lafarge Holcim، حيث يتم عقد اجتماع أمني يومي برئاسة مدير المخاطر الأعلى في الشركة الأم، ويتم خلاله تداول كل المشاكل الأمنية التي تعترض مصانع وفروع الشركة حول العالم، بما فيها المشاكل التي كانت تعترض مصنع الإسمنت في سوريا، والموثقة برسائل رسمية.

من الصحافة إلى المحاكم

عقب انفجار الفضيحة سنة 2016، في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة رفع أزيد من إحدى عشر عاملًا سابقًا بلافارج سورية قضية في المحاكم الفرنسية كطرف مدني، إلى جانب منظمتين حقوقيتين دوليتين؛ المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR مرفوقًا بمنظمة SHERPA الحقوقية الفرنسية. بتهم، كما ذكر آنفًا، تتراوح بين التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، ودعم منظمة إرهابية وتعريض حياة عمال مدنيين للخطر.

يقول تقرير منظمة ECCHR إثر ذلك إنه "بينما سعت Lafarge إلى ترحيل عامليها غير السوريين سنة 2012، دأبت على استغلال العمالة المحلية لإبقاء عجلة الإنتاج مشتغلة". هكذا كان لزامًا على العمال السوريين عبور مسار محفوف بالمخاطر، عبر نقاط التفتيش التابعة للجماعة الإرهابية، وسط الاقتتال العنيف حيث كانوا يقضون الليالي داخل المصنع الواقع تمامًا على خطوط المواجهات الساخنة بين الجماعات المتناحرة.

إضافة إلى أن الشكوى تضمنت شهادات عمال أجبروا على الاستمرار في الخدمة داخل المصنع، بضغوطات تصل من خصم جزئي إلى كلي لمستحقاتهم الشهرية إن تخلفوا عن الحضور لمقر العمل. وفي ضرب صارخ لحقوق العمال واستهتارٍ تامٍ بسلامتهم الشخصية، يذكر أن عددًا من عمليات الاختطاف طالت عمال لافارج سوريا، دون أن تتدخل الشركة في نجدتهم ولا جبر ضرر التهديد الذي طالهم.

كما أشار العمال إلى عدم وجود أدنى شرط من شروط السلامة أثناء العمل، والشركة لا تمتلك أي مخطط إخلاء في حال وقوع حدث طارئ، ولما تمّت مهاجمة مصنع جلابية لم ينج عماله إلا لأنهم وجدوا طريقهم للفرار اعتمادًا على درايتهم الذاتية بالبنايات. "بالتأكيد كان هنالك خوف عارم قبيلَ الهجوم، ونحن نسمع المواجهات تحتدم حولنا"، يقول شاهد من عمال المصنع عن ساعة مهاجمته، ويضيف أن "إدارة المصنع وإدارة السلامة كانوا على علم بالهجوم قبل وقوعه، وأن داعش كانت تقترب من المبنى. معطيات لم نكن نعلم بها وقت ذاك، لكننا عمدنا كعمال إلى التنسيق مع بعضنا بشكل فردي لتسهيل عمليات الإخلاء، دون أدنى اهتمام بالأمر من قبل الإدارة".

حسب ECCHR وSHERPA فإن لافارج كانت شريكًا في العنف الذي كان ضحيته عمال المصنع، والذي يعدّ جريمة حرب. هذا ما يجعلُ الشركة مجرمة في نظر القانون الدولي، والفرنسي على وجه الخصوص، بخرقها سلسلة من قوانين العمل و بتعريضها حياة عملها للخطر.

لم تقتصر محاكمة لافارج سوريا على العمال والمنظمات الحقوقية، بل انضاف إليهاادعاء ثلة من النسوة الإيزيديات اللواتي كابدن ظلمَ داعش. يقول ويليام بوردون المحامي ومؤسس منظمة SHERPA، في تصريحٍ له لجريدة Le Monde الفرنسية، إن "إدارة لافارج لا يمكن أن تنفي علمها بالجرائم التي كانت داعش ترتكبها في حق شعوب المنطقة"، لكنها بقيت وفية "لشغفها الاستغلالي وأرباح نشاطها الاحتكاري، في تجاهل تام متعمد لمخاطر التعامل مع أكبر أعداء الإنسانية" كما يضيف المحامي الفرنسي. ويختم بإبداء تخوفه من أن "تحمل الشركة الأم المسؤولية في هذه النازلة لا زالت محط شك، صحيح أن البرلمان الفرنسي تدارس تشريع قانون في هذا الشأن، لكن تمريره صعب نظرًا لمقاومة لوبي أرباب العمل القوية في فرنسا".

موقف الحكومة الفرنسية في القضية

في سبق إعلامي مثير، نقلت جريدة Liberation الفرنسية وقائع من جلسات الاستماع لجان لوك فييار، مدير الأمن السابق لشركة لافارج. وكانت المفاجأة كالآتي. قاضي التحقيق يسأل: هل الاستخبارات الفرنسية كانت على علمٍ بما وقع؟ يجيب المتهم: "لم أكن أبخل عليهم بأي معلومة، وفي اجتماعاتنا كنا نوفيهم بالمعطيات أولًا بأولٍ!". هكذا نفهم أن الحكومة الفرنسية كانت على علم بكل ما كان يجري هناك بمصنع لافارج شمال شرق سورية، وماذا فعلت إزاء ذلك؟ لا شيء إلى أن انفجرت الفضيحة في الصحافة.

اقرأ/ي أيضًا: فرنسا.. من الفعل إلى الثرثرة

على ما يبدو أن هذا الموقف المتواطئ ليس حكرًا على حكومة إيمانويل فالس ورئيسها فرانسوا هولاند وماكرون وزيرًا فيها، بل استمر مع الحكومة الحالية كتصرف محوري لدولة تهوى الاستكساب من دماء شعوب العالم الثالث، وتغلب المصلحة الاقتصادية دائمًا على الشرط الأخلاقي الإنساني، بداية بتورطها في النزاعات في إفريقيا، وتسليحها لسعودية ابن سلمان ضد الشعب اليمني الأعزل، انتهاءً بتكتمها في القضية التي نحن بصدد الحديث عنها. هكذا عطلت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي،  طلب المحكمة برفع السرية عن وثائق استخباراتية لها علاقة بقضية لافارج. 

عادت قضية فرع شركة Lafarge Holcim الفرنسية في سوريا إلى الطفو على سطح الرأي العام، قبل فترة، حيث نظرت استئنافية باريس في طلب النيابة العامة بإسقاط تهم "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" عن الشركة المذكورة

فيما سعى كلّ من الادعاء العام ووزارة العدل الفرنسية مؤخرًا إلى إسقاط تهمة التواطؤ في جرائمَ ضد الإنسانية، بدعوى "عدم توفر أدلَّة دامغة على ذلك، ومحدودية مسارات التحقيق". يسجل محامي منظمة SHERPA ملاحظاته السلبية عن سير التحقيق، مصرًا على أن النظر في القضية يستلزم قاضيًا رابعًا مختصًا في الجرائم ضد الإنسانية، وحده القادرَ على الجزم في ثبوت التهم أو نفيها، الشيء غير المتوفر في هذا التحقيق.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماكرون في القاهرة.. حقوق الإنسان غائبة أمام صفقات التسليح