28-فبراير-2022

غرافيتي على جدار السفارة الروسية في لندن (Getty)

عنونت مجلة تايم الأمريكية عددها الأخير بـ"عودة التاريخ". مشيرة إلى أن عودة الحرب إلى القارة الأوروبية، مشفوعة بصور دبابات روسية، تشي بعودة البشرية إلى حقبة فائتة، كانت السرديات الكبرى قد شكلت محاورها. وهذه الصور هي بناء رمزي وتمثيلي لأنظمة تفكير شكلت حياة البشرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتقاسم المنتصرون فيها الجغرافيا، مستندين إلى التسلح العسكري والتقني المتقدمين. ورافق هذا التقاسم الجغرافي تقاسم الأفق المستقبلي لشكل الحياة ومعانيها. استنتاج مجلة تايم هذا يعلل "عودة التاريخ" محمولًا على ظهر الحروب، إلى ذلك الزمن، حين كان العالم منقسمًا إلى معسكرين تحكمهما أفكار تختلف جذريًا عن بعضها في رؤيتها للعالم ولنمط الحياة فيه. وهذه الأفكار كانت أفكارًا أيديولوجية واقتصادية تتصارع فيما بينها، مدعية تصور مشروع مستقبل للبشرية، من خلال رفعها لقيم تدّعي خلاصًا بشريًا إذا ما انتصرت.

مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الفكرية والسياسية والثقافية التي بناها، انهارت مقولته الخلاصية وروافدها الفكرية والعسكرية المرافقة

مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الفكرية والسياسية والثقافية التي بناها، انهارت مقولته الخلاصية وروافدها الفكرية والعسكرية المرافقة. وتسيد على العالم مدى أفكار وحيد، أخذ يشكل وعيًا جديدًا، فارضًا مشروعه المنتصر كنمط حياة، خارج حلبة الصراع على التاريخ. الأفكار التي انتصرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كانت أفكارًا رأسمالية، حكمت العالم عبر خطاب المؤسسات الأمريكية والغربية التي رسمت المستقبل ولونته بألوانها الوردية.

اقرأ/ي أيضًا: حرب الضحيتين

هذه الألوان الوردية زينت أفكارًا كونية، كالحرية والديمقراطية والمساواة، باعتبارها الأعمدة التي تحمل عالم ما بعد التاريخ، وهو عالم غلفته فكرة الاستهلاك كمحرك للرخاء والطمأنينة. غير أن هذا العالم الجديد لم يخل من الحروب. فمن تفكك يوغوسلافيا إلى عاصفة الصحراء ومن ثم احتلال العراق وأفغانستان، كانت هذه الحروب تحدث بعيدًا عن منطق التاريخ. أو بمعنى أدق حصلت هذه الحروب بسبب موت التاريخ وبدء تحلل جيف النسيج المشكل والدائر في فلك المعسكر الخاسر.

هذه الحروب حصلت في كنف الأفكار الرأسمالية وليس كصراع معها. أي أن أنظمة الحياة المبتغاة بين المتصارعين على اختلاف منابتهم، لم تكن ترنو إلى حياة اشتراكية شيوعية، مدفوعة بتصور خلاصي مناهض للرأسمالية الرابحة والمهاجمة. فالصراعات الدموية جرت تحت سقف الرأسمالية كمنظومة منتصرة على التاريخ.

وبهذا غدت الرأسمالية الفكرة الوحيدة المحركة للتاريخ بعد موته. وإن بصيغ ونسخ مختلفة ومتباينة. فالواقع الآن أن العالم يعمل طبقا للمبادئ الاقتصادية ذاتها، على ما يرى الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش، إذ أن منظومات الإنتاج كلها موجهة نحو تحقيق الأرباح عبر استعمال يد عاملة رخيصة، محكومة برؤوس أموال خاصة وبتوجيهات لامركزية في ظل ابتعاد الحكومة عن التحكم الكلي بآليات الأسواق طوال الثلاثين سنة الماضية. الطغيان التام لهذا النموذج الاقتصادي جعل من مبدأ الربح والإثراء توجها عاما تجمع عليه معظم الشرائح المشكلة للمجتمعات.

وبهذا التوحد العالمي حول هذا التوجه، أصبحت بنى المجتمعات الفوقية والتحتية في تلائم بنيوي، جاعلة من هذا الهدف قبلة للجميع. وفي هذا التلاقي البنيوي العام تَعَمدت الرأسمالية كمشروع مسيطر على اقتصاد العالم، حيث بتنا نعيش في عالم تحكمه منظومة أسواق تعمل وفق الصيغ نفسها، والقوانين الناظمة الموحدة، واللغة الواحدة الناطقة بمنطق السوق وجني الأرباح. غير أن التسيد الرأسمالي على العالم لا ينتج لونًا واحدًا، فميلانوفيتش قسم الرأسمالية المتسيدة إلى قسمين: القسم الليبيرالي الميركانتيلي المسيَّر بالديمقراطية الذي نما في الغرب خلال المئتي سنة الماضية، في مقابل الرأسمالية المرعية من الدولة القمعية، والتي نجد نسخًا مختلفة لها في الصين وبعض أرجاء آسيا كما في روسيا وأفريقيا. على هذا يمكن القول إن الحرب الروسية في أوكرانيا هي حرب داخل الفكرة الواحدة وإن كانت سهام بوتين تنطلق من أقواس تاريخية.

 الحرب تقع الآن في قلب الأفكار التي تشكل تصور البشرية عن ذاتها. هي حرب محلية وكونية في آن

ولكن الجدير بالملاحظة أن الحروب التي حصلت منذ موت التاريخ كانت حروبًا إلكترونية. أو بمعنى آخر، كانت حروبًا نشاهدها على التلفزيون بشكل مباشر ولاحقًا على شبكات التواصل الاجتماعي. هذه الحروب بعسفها وبالدمار الذي أنتجته كانت حروبًا غير متكافئة وكان الخاسر فيها معروف سلفًا، وكانت تحدث في أماكن تشكل الجيف السياسية التي تركها التاريخ خلفه. أماكن ميتة أصلًا، تقيم خارج زمن الأحداث وحواس الرأي العام العالمي. فكانت صور وأخبار الحروب تمر في أنهار الميديا العالمية كموضوع له سوية مواضيع استهلاكية وسياسية أخرى. الرعب والوجع كان من نصيب الضحايا فقط. فلم تكن تلك الحروب غير عرض أسلحة فتاكة في حيز ميديائي استعراضي ممسرح بعيد عن مصانع الأفكار والسياسات الكبرى. وكانت صور الموت تمر مرور عابر خفيف الظل لا يوقظ قلق المستهلك الناخب في مراكز القرار ولا يهدد تصوره عن نفسه وعن مستقبله. كان الذين يموتون أقل شأنًا ممن يشاهدهم ويتضامن معهم على الشبكات العالمية. كان موتهم موتًا أيكولوجيًا لا يمكن تلافيه ولا يمكن إيقافه، يمكن مشاهدته فقط.

اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا المتروكة وحيدةً

ما يميز الحرب الروسية في أوكرانيا الآن أنها وقعت في قلب النظام الرأسمالي وبين نسختيه المتصارعتين. الحرب تقع الآن في قلب الأفكار التي تشكل تصور البشرية عن ذاتها. هي حرب محلية وكونية في آن. فالضحية الأوكرانية والمشاهدون الأوروبيون والعالميون والروس على حد سواء هم جزء من مشهد الخراب الأبوكاليبتي الذي يرتسم في تصور الكائن عن مستقبله. وما دخول دولة مثل السويد طرفًا في الصراع إلا دليل على الموت الذي من شأن التاريخ المستعاد أن يحدثه.

صور الصواريخ الباليستية المنفلتة من عقالها، والتهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل هي عين الواقع ومسرحه. لقد بات في وسعنا أن نتخيل أنفسنا، ونحن نعيش حياتنا اليومية، والأقنعة الواقية من الغازات السامة على وجوهنا، ونتجنب الاختلاط والخروج ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا لنعيش في عالم من العزلات والندرة، وربما كانت فجائحة كورونا أول بشارات عودة البشرية إلى واقعها التاريخي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن يسار عربي يحيا في زمن الحرب الباردة

نحن الذين نموت في كل حرب