25-فبراير-2022

كاريكاتير لـ ماتياس تيجيدا/ الأرجنتين

ألقت الحرب الروسية على أوكرانيا بظلالها على اهتمامات الكثير من نشطاء وقادة اليسار العربي، إذ ما يزال البعض يعتقد أن روسيا هي الوريث والامتداد الطبيعي للاتحاد السوفييتي المنحل، ويؤيد الحرب الروسية المجحفة بحق أوكرانيا، ومع التأكيد على أن حقيقة أن الأمن القومي لروسيا في خطر، فإن الحقيقة الثانية هي أن مصير أوكرانيا والعالم كله أصبح في خطر، في ظل الخطوات الروسية الأخيرة.

مصير أوكرانيا والعالم كله أصبح في خطر، في ظل الخطوات الروسية الدموية الأخيرة

كره اليسار العربي للولايات المتحدة والغرب له ما يبرره، الماضي الاستعماري لتلك الدول، التدخل في شؤون الدول العربية والدول النامية في العالم، السياسات القذرة والخبيثة التي عملت على إحباط الازدهار والتقدم والانتقال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي نحو العصر الحديث، والدعم الكبير لدولة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، لكن مما لا شك فيه، أن هناك أسبابًا ذاتية، تتعلق بالتخلف الثقافي والاجتماعي الذي تعيشه تلك المجتمعات، والتي لم تتمكن من مواكبة التطورات المادية التي شهدها العالم، كما أن الأهم، أن روسيا والصين، ليستا النقيض الموضوعي والإيجابي لأمريكا والغرب.

اقرأ/ي أيضًا: القوات الروسية تتقدّم نحو كييف على وقع هجمات صاروخية في وسط العاصمة

إن عدم ممارسة اليسار العربي للنقد الذاتي قد أفقدته توازنه، بل والضرورة الموضوعية لوجوده أصلًا، ناهيك عن أن التطبيق السوفييتي للنظرية الماركسية، سبب لها، ولحركات اليسار المتأثرة بالنهج السوفييتي، العار، فأبسط مراجعة لتاريخ الاتحاد السوفيتي، تشير إلى مدى كارثية العديد من الأفكار والمبادئ التي تم تطبيقها في دول المعسكر الشيوعي، وعن الهدر الذي لحق بالإنسان والإنسانية جراء السلطوية المتوحشة للأنظمة الشيوعية، والرؤية الشمولية بل والفاشية تجاه كل ما هو مختلف.

إضافةً لما سبق، فقد استحكمت صراعات وتناقضات الحرب الباردة بين دول المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، في تعبئة وتلقيم العقل اليساري العربي، بمنظومة هجاءات أيديولوجية، وشعارات دوغمائية، معززة بالدعم المادي واللوجستي الذي كان يقدمه الاتحاد السوفييتي لحلفائه من حركات وأنظمة، في قولبة تلك الحركات والقيادات والأطر، وفي اتكاليتها النظرية المفرطة على توجهات وسياسات وصراعات وأفكار السوفييت، والتي أثبتت فشلها الذريع في الواقع العملي، الفشل الذي تكلل بالانهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفييتي وتفككه.

وحتى نصل إلى مقاربة واضحة وصادقة، فكريًا وسياسيًا وأخلاقيًا للأزمة الأوكرانية، فلا بد من الإشارة إلى أن أوكرانيا قد دفعت ثمنًا باهضًا إبان الحكم السوفييتي لغطرسة موسكو، هذا الثمن، تمثل في موت الملايين من الأوكران بسبب السياسات التعسفية اللينينية والتروتيسكية والستالينية تجاههم، فمن تأميم الأراضي الزراعية في أوكرانيا، وتحويل الملّاك إلى فلاحين يعملون بالسخرة، إلى مصادرة المحاصيل لصالح الجيش الأحمر في الحرب الأهلية الروسية، إلى التأميم الثاني والشامل في عهد ستالين للأراضي الزراعية، وبيع المحاصيل والحبوب خصوصًا لدول العالم، في الوقت الذي عانى فيه المزارعون من المجاعات، للمرة الثانية، إلى معسكرات الاعتقال الجولاج، والمجازر التي مورست بحق الآلاف من الأوكرانيين بحجة التعاون مع النازية... إلخ من الممارسات الوحشية الفاشية للنظام الشيوعي آنذاك.

مما لا يقبل الشك أن روسيا والصين ليستا النقيض الموضوعي والإيجابي لأمريكا والغرب

وفوق كل ذلك، فقد أجبرت أوكرانيا للاحتفاظ باستقلالها إبان انهيار الاتحاد السوفييتي ما بين عامي 1989 – 1991، إلى التخلي عن الترسانة النووية التي كانت تملكها، والتي كانت تمثل ثلث الترسانة النووية للاتحاد السوفييتي، وذلك لأن روسيا، التي اعتبرت نفسها الوريث والوصي على إرث الاتحاد السوفييتي، قد تمسكت بمطالبتها بتلك الترسانة النووية، هذه المطالبة التي وجدت تواطؤًا من الغرب، بحجة الخوف من أن تكون أوكرانيا إحدى الدول النووية الكبرى بما لديها من مخزون هائل من الرؤوس النووية، تلك التنازلات قدمها أوكرانيا في مقابل ضمانات أميركية بريطانية أوروبية روسية، بضمان استقلالها والحفاظ على أمنها.

اقرأ/ي أيضًا: ديناميكة السوق وأزماته.. كيف أصبح بوتين "قيصر" هذا القرن؟

اليوم يتشكل حلف الناتو من 30 دولة، بينها العديد من الدول التي كانت منضوية ضمن المعسكر الشيوعي، بما فيها بولندا التي كانت تحتضن حلف وارسو الذي يضم دول المعسكر السوفييتي، إضافةً إلى المجر وبلغاريا ورومانيا وجمهوريات صربيا السابقة كالجبل الأسود وألبانيا وكوسوفو، ناهيك عن استونيا وليتوانيا ومقدونيا... إلخ، وكل هذه الدول، باستثناء صربيا، كانت ضمن يوغسلافيا، ألم يسال اليساريون العرب أنفسهم، لماذا هرعت تلك الدول للانضمام إلى الحلف العسكري الرأسمالي الأكبر؟! لماذا تخلت عن ماضيها الشيوعي وأحلامها الأممية بتلك السهولة والسرعة؟ وأعتقد أن الجواب واضح: الهروب من القمع والفاشية السوفييتية، وورثتها الجدد.

وللإجابة عن السؤال الذي افتتحنا به هذا المقال، فروسيا بوتين، ليست ولن تكون في أي وقت روسيا الاتحاد السوفييتي، والصين "الشي جين بينجية" لا ولن تكون الصين الماوية الشيوعية، وإذا كانت المصالح الأيديولوجية والطموحات الإمبراطورية لتلك الدول، وفي ظل الصراع مع المعسكر الرأسمالي الغربي، قد دفعتها في يوم ما لتقدم بعضًا من الدعم المادي أو اللوجستي لبعض الدول النامية، بهدف استمالتها، فهذا لن يحصل مجددًا، إن الصين وروسيا أصبحت نماذج أكثر رداءة للنموذج الرأسمالي الغربي في الاستغلال والطموح الجامح للسيطرة، أما تجليات هذه الرداءة والتشوه، فيمكن ببساطة في كونها دول دكتاتورية قمعية تقوم على فكرة الهيمنة مع جشع وعقد عميقة مدفوعة بهدف الاستغلال وفرض الهيمنة.

إذا نجح بوتين في أوكرانيا وعجز الغرب عن لجمه، فمن البديهي أن تسعى الصين إلى تكرار التجربة عن طريق الحرب على تايوان

اقرأ/ي أيضًا: دليل تاريخي شامل لفهم الأزمة بين روسيا وأوكرانيا

وإضافةً لكل ما سبق، فإن التطورات الخطيرة، التي أفضت إليها مواقف الرئيس بوتين، ستنعكس بصورة أكثر خطورة في مآلاتها، خصوصًا إذا ما استطاع بوتين فرض هيمنته وتحقيق أهدافه في أوكرانيا، وعجز الغرب عن كبح جماحه ولجمه، فقد أصبح من البديهي إذا ما حدث ذلك أن تسعى الصين لتكرار التجربة البوتينية، من خلال فرض هيمنتها، عن طريق الحرب على تايوان، وهو ما يرفع احتمال وقوع حرب عالمية ثالثة إلى مستوى شبه المؤكد، وحينها لا نعرف إن كان العالم سيبقى إلى ما بعدها أم سيفنى، أما في أقل الاحتمالات الممكنة، فإن الحرب الجارية في أوكرانيا تهدد بلداننا العربية بالجوع، خصوصًا مع احتمال توقف تصدير القمح من روسيا وأوكرانيا إلى بلداننا، وبالتالي انتظار المجاعات المُهلكة، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الخطيرة التي قد تحيق بالمنطقة العربية كلها جراء هذه الحرب.. فهل يعي اليساريون العرب المهللون لروسيا هذه الاحتمالات الكارثية؟ أشك في ذلك!

 

اقرأ/ي أيضًا:

عالمان يتجاوران تحت شمس واحدة

لماذا نقرأ كتب التاريخ؟!