عن هوس الفلسطيني بسيرة حياته
11 أكتوبر 2025
لا أظن أن هناك شعبًا في العالم مهووسًا بكتابة سيرته الذاتية مثل الشعب الفلسطيني. معروف أن السيرة الذاتية فنٌّ أدبيٌّ يكتبه الأديب أو العالم أو الفنان، أو أي شخص عاش حياةً حافلة بالتجارب المؤلمة أو السعيدة، وشكّلت مصدر إلهام أو بوصلة للناس في كل مكان.
لكن هل هناك فلسطينيٌّ واحد لم تكن حياته ممتلئة بالأحداث الصعبة والمفارقات والألم؟
لو فكّر باحثٌ في إعداد دراسة إحصائية عن أكثر الشعوب كتابةً ليوميّاتها أو مذكّراتها، فبالتأكيد سيكون الشعب الفلسطيني في مقدمة الشعوب العشر الأكثر انشغالًا بتوثيق حياته وتجربته.
ما يعزّز هذا الاستنتاج هو أنّ كثيرًا من طلابي في أكثر من مدرسة سألوني مرارًا عن قواعد كتابة المذكرات.
أتذكّر أحد طلاب الصف الثامن الذي اشترى دفترًا أنيقًا ملوّنًا وقدّمه لي قائلًا إنه سيكون دفتر مذكّراته الذي سيبدأ بكتابته. سألته مبتسمًا: "ما الذي ستتذكّره يا صغيري؟ عن ماذا ستكتب؟"
لم يجب طبعًا، لكني حاولت أن أفتح له طريقًا لطيفًا: "اكتب عن أحداث شهدتها في البيت، مثل كسر صحن في المطبخ، أو موقفٍ مضحكٍ مع أحد زملائك. اكتب عن مشاعرك تجاه أمك وأبيك وجدّك وإخوتك".
صفن الطالب في وجهي مستغربًا، ثم أجاب بثقة: "لا أستاذ، أنا بدي أكتب عن سيدي، وعن حكاياته عن طفولته في البلد اللي اتْهَجّر منها".
حتى الأطفال في فلسطين يحبّون تدوين حكايات أجدادهم عن القرى المهجّرة. لماذا هذا الهوس الفلسطيني؟ الجواب بسيط ومتوقّع: لأنّ الفلسطيني حُرِم من كلّ شيء، من الأرض، ومن البيت، ومن التنقّل الطبيعي، ومن النوم الآمن، فلم يبقَ له سوى ذاكرته. والذاكرة هنا تصبح أداة المقاومة الوحيدة المتاحة؛ فالقتال بالذاكرة وسرد الحكاية طريقة ناجحة وفاعلة في معركتنا ضدّ الصهيونية الغازية.
أحبّ أدب السيرة الذاتية، وأبحث دائمًا عن كتب لفلسطينيين تحديدًا كتبوا مذكّراتهم. كتبُ خليل السكاكيني العشرة في السيرة، موجودةٌ قرب وسادتي؛ أتنقّل بين صفحاتها كلّما هاج بي الحنين إلى القدس.
أما "غربة الراعي" لإحسان عباس، فقد حرمنا فيها — للأسف — من سرد تجاربه الشخصية، لكنه كان شاهدًا عظيمًا على مرحلة حسّاسة من تاريخ فلسطين التعليمي والنضالي في القدس وحيفا.
ونقولا زيادة، في سرده الفكري لعصرٍ مهمّ هو النصف الثاني من القرن العشرين، وموسى حوامدة في سرده المشوّق الصادق لتفاصيل حياته، وهشام شرابي وإدوارد سعيد وآخرون كثيرون، جميعهم شكّلوا فسيفساء الذاكرة الفلسطينية عبر حكايات الذات.
في المخطوط الذي بين أيدينا، والمقرَّر صدوره قريبًا في عمّان، لا نتفاجأ بمذكّرات الكاتب والسياسي الصديق إبراهيم عجوة، وهو يدوّن سيرته عن طفولته في قرية السموع قضاء الخليل، وعن محطات حياته خارج البلاد.
لا نتفاجأ، لأنّ كلَّ من عرف حياة وتجارب إبراهيم سيدرك أنّها كانت تتّجه حتمًا نحو مذكّرات قادمة؛ فهو يعرف أهمية ذلك، ويدرك أن نضاله بالكلمة والمذكّرات لا يقلّ أهمية وتأثيرًا عن نضاله الميداني المباشر.
إنه شكلٌ آخر من أشكال المقاومة لمناضلٍ معروفٍ عانى من ويلات الاحتلال ومن ملاحقة أجهزة القمع العربي.
إبراهيم قارئ ممتاز في كل صنوف المعرفة، والأهم من ذلك أنّه صادق في رواية حياته. ولا أُبالغ إن قلت إنّ هذه المذكرات من أصدق ما قرأتُ في أدب السيرة الشخصية؛ قال إبراهيم كلَّ شيء كما ينبغي أن يُقال، بعفويةٍ ذكية، وتدفّقٍ حميم، ومشاعر سيّالةٍ ساخنة.
تحدّث عن الأب والأم، والأصدقاء والحبيبة، والمدرسة والبيت والعائلة والمنافي والرفاق والمدن. قال أخطاءه كما هي، في أجمل وأشجع ما يكون القول؛ لم يُجمّل، ولم يدّعِ، ولم يستخدم الزخارف اللغوية الفارغة، ولم «يشفّر» أحداث حياته أو «يفلتر» صورته.
إنّ صفحات حديثه عن حبيبته التي أصبحت زوجته لا يمكن قراءتها دون دموعٍ وخفقانِ قلب؛ فهي ليست مكتوبة بلغةٍ شعريةٍ فلسفيةٍ غايةٍ في الأناقة فحسب، بل هي أيضًا شكلٌ من أشكال الحب، ونوعٌ نادرٌ من التعبير عن الوفاء والامتنان.
يعيد إبراهيم، عبر هذه الصفحات، إنتاج نوعٍ جديد من عشق نادية — زوجته — في كتابةٍ تصلح لأن تكون جزءًا من رواية.
وبالمناسبة، لماذا لم يكتب إبراهيم حياته الخصبة على شكل رواية، وهو القادر على ذلك بحكم خبرته القرائية والوجدانية؟
أظنّه تخلّى عن الرواية لسببٍ جوهري: أن يقول الأشياء كما هي، مباشرةً، دعمًا للسردية الوطنية الفلسطينية، وانتماءً أصيلًا لفكرة القتال بالذاكرة.
سأختم بأجمل، وأصدق، وأشفّ ما قرأت في حياتي من خلاصات الذاكرات:
"وفي مرآتي لا أرى رجلًا يقاوم الزمن، بل ذاكرة تمشي على قدمين، تستعيد التفاصيل التي لم تُكتب، وتضحك من المفارقات.
وتدرك أن الحياة لم تكن عادلة، لكنها كانت كريمة ببعض اللحظات.
أرى وجهًا لا يخجل من ندبة، ولا يُخفي تعبًا، لكنه يعرف أن كل ما مرّ كان يستحق أن يُعاش.
الشيخوخة لا تُقاس بعدد السنين، بل بعدد المرّات التي عدنا فيها من الانكسار دون أن نفقد إيماننا بالمعنى.
مرآتي لا تخبرني أني هرمت، بل أنني نضجت بما يكفي لأطرح الأسئلة من جديد، دون مرارة، ودون أن أطلب إجابات".