06-ديسمبر-2021

لوحة لـ جيزلبرت هوك/ النمسا

ـ جلست وحيدة كعادتي على حافة الدرج أنظر إلى شجرة الياسمين، ياسمينتي أول شجرة زرعتها في حديقة بيتنا الجديد. بيتنا الذي بنيناه بعد عراك بين أمي وجدتي. أتذكر؟ على ما أعتقد أن حرب الحماة والكنّة لن تنطفئ أوارها أبدًا. تلك الحرب الباردة التي نخوضها بدون نفهم لماذا وكيف. أحادث ياسمينتي كثيرًا، وصار حديثي معها أكثر تواترًا منذ عام بعد أن سقيتها من مائك، وكأنني أحدثك أنت..

أتينا معًا من تلك الأراضي المفتوحة بعضها على بعض تعبرها سواقي الماء لترطب الحرارة الكامنة بالجو ولتطفئ العطش البعيد الذي لا نعرف مكمنه. من تلك المسارب التي تمتد إلى لا نهاية، وتتوغل في الصمت والثرثرة الأليفة، من جفاف لياليها الصاخب، من سكونها الكسول، من الفرندات الواسعة التي تنتشر فوقها الحصائر المزركشة، والوسادات فوق الحصائر، وفوقهما المؤخرات السمينة، علامتنا على التذاذنا بالكسل؟ أتينا من كل هذا، ومن المائدة الصغيرة التي تزخر بثمار البطيخ، سبحنا هناك بين القشور والماء الحلو والبذور السوداء، كبرنا في حضن الليل الأسود المشوه بالنجوم، الليل الساكن المنغم بالصراصير وهمس الحشرات ونميمة الأحياء البعيدة، حملتنا النسمات، التي لا تعرف كيف تخطو من ثقلها من حمل الياسمين ورائحة الماء وأحلام الصبايا المسجونة خلف النوافذ والأسوار، جئنا من هناك ولا أعرف كيف انتهينا هنا ولا كيف تخليت عني ورحلت سريعًا. أجلس متأملة ياسمينتي، أتخيلك معي كغراب ملول طاعن في السن واليأس تطل على العالم من غصن محترق بأعين ملؤها السخرية واللامبالاة.. أقلب صفحة الخيال وأسهو. لا شيء لأخبرك عنه. بدأت أتهجى حروف الأمل الصغيرة، وأتعلم بعد كل هذا الوقت أنه مجرد موت وعلي ككل شيء آخر أن أتقبله.

أتوقف قليلًا كل صباح أمام العجوز الأجرب الوحيد القابع في زاوية قصية من أرضنا، دون أن أشعر بذنب أو أسف، وأكرر في سري: لا بأس بالحياة. قلبي الكسول يتنفس تحت الماء ويتقبل السعادة. هل تصدق ذلك؟

ـ نعم أصدقك لم أصدق يومًا أحدًا غيرك. أتعلمين أن كل شيء عادي هنا. ما زلت أهاب المشي في الليل وأحب الأزقة الضيقة المظلمة وأحب الخمر كما عهدتني.. حسنًا إن مكاني ضيق قليلًا، منذ سنة لم أتذوق طعم النبيذ ولا الويسكي ولا البيرة. إنه عقاب قاس علي، أتعلمين بدأت أستأنس لعواء الكلاب المشردة المستوحدة، وأخاف الضوء الدافئ الذي يغمر من الطريق كلما عبرت سيارة، وكلما علا صراخ أخي وصراخ أمي وصراخ ابن عمي. ألغام السعادة المؤقتة المزروعة تحت وسائد الأطفال تبدو لي مرعبة.

 حسنًا ما جديدك أنت؟

ـ أتعلم ما الجديد؟ حبيبي سافر مرة أخرى. يأكل الحزن قلبي من كل النواحي.

ـ أعلم لقد شعرت بسيجارته عندما دخنها في خاطري ودفنها قريبة مني.

ـ حسنًا لأكمل لك، سأرحل عن بيتي الصغير الذي حين زرتني فيه، غلبك الضحك قلت لي: "أخيرًا ستتزوجين وسنرتاح منك"، وزعت آخر أغراضي على صديقات، سوف يلبسن فساتين لم يخنها جسدي بعد. وإحداهن ستحضن دمية قطنية مبتسمة على الدوام، وأخريات سيأكلن بصحون وملاعق لطالما أكلنا فيها.

فجأة اكتشف أنني أملك خمسين سنة، أملكها كتحفة ثقيلة الوزن.. هذا العمر، هل هو لي حقًا؟ أقلّبه بدهشة بين يدي، ماذا أفعل به؟ أشارك الآخرين به أم أتركه منزويًا في خزانة الذاكرة ليعبث به ورثتي؟ أم أتركه للعجوز الأجرب الوحيد؟ في أي علبة يمكنني توضيبه؟  أي صندوق يحتمل ثقله؟

أشياء غريبة تنمو في جسدي، لا أعرف كيف أسميها، أفرغ وأنتفخ، تنتفض عروقي، تجرحني، شيء يتزلزل في داخلي، شيء ينبثق من لا مكان. أقف أمام أغراضي وأحس برغبة خفية بالبكاء. أقف أمامها وأحس برغبة عميقة بالقيء. بتّ أحمل جسدي على كتفي كغصن ذابل لا أعرف بأي تربة قد يزدهر. أتعلم. أحب أن أعود إلى قرية لا أعرفها وأتسلل إلى أعراس البدويات أسرق فرحهن الخالي من الإضافات: الإيمان العميق بالحياة. أحب أن أمشي في غابة أتنفس فيها هواء نقيًا. ألقي بأمتعتي وأغراضي الفقيرة في النهر وأختبر صمتًا طويلًا. أريد أن أتعلم الألم، ببساطة ودونما ضجيج. ألم بحت، وابتسم طويلًا في وجه الشمس، بينما أفكر أننا رغم كل شيء، كنا أحياء ذات يوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وليم بتلر ييتس: الطّفل الذي يرقصُ في الرّيح

مقامات صوفية