22-يوليو-2022
لوحة لـ سيغمار بولك/ ألمانيا

لوحة لـ سيغمار بولك/ ألمانيا

1

كَتبَ جُمْلةً غامِضَةً على الهواءِ عن الحنينِ إلى حُبٍّ عتيقٍ ومضى في طريقه يصهرُ حلمًا أصابهُ عطبٌ في الشكل وجَرَّحَتْ التجاربُ رُوْحَهُ كذلك، إثر انتحارٍ مجازيٍّ غَلَّفَهُ بقماشٍ واقعيٍّ في سياقٍ رديءٍ لم تصُنْ تهاويه يدٌ عارفة. الكلُّ اختارَ الفُرجةَ والتَّرقُّبَ، حتّى الله تركَهُ وحيدًا في مواجهةِ ارتطامه في سقوطه الأُفقيِّ.

راهنَ على الصمتِ والوقتِ، أمّا الصمتُ فكانَ يُشعلُ في رئتيهِ شموعًا وقصائد، وعنِ الوقتِ قال إنَّه رآه يتدفَّقُ سائلًا لهُ رائحة غريبة، يتدفّقُ رآه من خطواتِ العابثاتِ باسمه في ثرثرتهنّ التي تُحرِّكُها رغبةٌ في الانتقامِ من الشِّعرِ الذي عَرَّاهنّ في أَسرَّةٍ عابرة.

كانَ يغرقُ بحذر عاشقٍ قديمٍ في الموسيقى والأغنياتِ. وعوَّلَ كثيرًا على المشي حافيًا يحرثُ بقدميهِ الرمالَ ويحرسُ العصافيرَ من الشِباكِ المنصوبةِ لها في غروبها إلى أعشاشِها، حتّى إذا وصلَ البحرَ عابرًا أشجارًا كثيرةً وهواجسَ ملأ صدرَهُ بنشيدِ الأساطير يُرتّلُها صلواتٍ غرقى من زمنٍ أهلكتهم فيه امرأة من ماءٍ غاوي.

أحبَّ الحياةَ كما خلقتْها لياليه التي من عطورِ الرواياتِ وبخورِ الأكواخِ التي تُصاحبُ نهرًا أدركَ البساطةَ والخفّةَ في معنى سريانه. وأحبَّ مُخاصرةَ اللغةِ رقصةً يُثملُها ضوءٌ يُشرق من قلبِهِ.

[كان يُصلّي كيْ يخفَّ فيطيرُ]

كان يُصلّي في منامه تاركًا النوافذَ مشرعةً على السمواتِ ودمُهُ كانَ ينهبُ الأوكسجينَ فتدركُ الجدرانُ اختناقها فيصحو على ثقل العالم في كفّيهِ. شكَّ في الألوانِ جميعَها فجلسَ على حافّةِ القلقِ يصيغُ من ذاكرةِ عينهِ لونًا آخر فيصيبهُ أرقٌ يتركُهُ يتصببُ عرقًا وكلامًا تنطقُهُ على لسانه جائعاتُ الطيرِ. كانَ يقصصُ رؤياه على العابرين فتنبتُ على جلودِهم الفاحشةُ ويتبرأُ منهم تمامًا حينَ تصحو النميمةُ في شوارعِ المدينةِ ومقاهيها العطشى للحكاياتْ.

2

أّحَنَّ كثيرًا إلى غرفتِهِ التي من زجاجٍ على سطحِ بيتٍ رسمتْهُ صبيةٌ على دفترِها في حديقةٍ خضراءَ وتُطّلُ على أزرقٍ مزاجيٍّ يلاءمُ تموّجَ مزاجِهِ. كانَ للقهوةِ طعمٌ يشبهُ الصلاة قربَ وردةٍ يُنْعشُ صباحَها الندى.

وكان للصباحِ طقسهُ المقدّس وتعرفُهُ غيمات كثيرات تحوّلن إلى أنهارٍ وأشجارٍ وبيوتٍ آمنةٍ لأسماكٍ ملوّنة. أحَنّ إلى شَعرِها الصارخُ بطيراناته الصغيرة على أرصفةٍ عَطشى للصراخِ والعاطفة. لبسَ مِعطفه الشتويِّ وصعدَ إلى شُبّاكِها مطرًا عاشقًا. الكلُّ راهنَ على موتِ عشقِهِ في مهدِهِ.

 أمّا هو فقد راهنَ على الحياة وانتعاشِ الذاكرة، وكان يعرفُ أنّها تتلصّصُ على حرفِهِ في إضاءةِ غرفتِها التي تُحاصرُها بالخطواتِ والتفاصيلْ. علّقَ آلامَهُ على مِشجبٍ من آمالٍ وأمنياتْ، ومضى في متاهاتِ اللغةِ يُفتّشُ عنْ خطايا بريئةٍ تُطمئنُ نَفَسَهُ. ربَّى مفرداتِه على القتالِ في معركةٍ لا تتوقّفُ مع وجودٍ كلّ يومٍ هو شأنْ. وزرعَ حروفَها ناياتٍ تُعبِّقُ الجوَّ بلوعةِ الروحِ لياقةً كلّما ضاقَ مداها.

قصّ على عزلتِهِ حكاياتٍ عن التدحرجِ في السقوطِ والتدرّجِ في الصعودِ وعن قدرةِ الفهمِ في السفر الخفيف بينهما وكانَ يُوشوشُ في أُذنِها أسرارًا لا تفهمُها وتدركُ حاجتهُ للرحيلْ.

رحلَ ببكاءٍ لا دموعَ تُذرف فيه، ولا صوتَ له، ببكاءٍ رحلَ غير مُطأطئٍ، واثقَ الخُطى سارَ خلفَ عطرٍ يسكنُ ذاكرته، مُتيقّنًا أنّ روايةً لم تذكرهُ ولا شاعرًا ماتَ إثرَ سقوطِهِ عنَ جسرٍ تغنّى بهِ، ولا عاشقًا صادفهُ في هيامهِ. سارَ وظلُّهُ عطرُه، تاركًا شمسًا عظيمةً وراءه. غير مكترثٍ للمدينةِ الخائبة.

3

جُنَّ في أغنيةٍ فيها ظلالٌ وغِناءْ، وكانَ يحفرُ في الخشبِ تأويلَ أنفاسِهِ. يصحو على جلدِهِ ندىً فيه نداءْ. بيُسْرٍ سريٍّ دخَّنَ الصُّعودُ المباغتُ أسماءَ الهاويةِ وهي تهوي، فيما العاشقُ قلبهُ مبلّلٌ بملامح الياسمين، يبتسمُ عطرَه كلّما ريحٌ عبرتْ روحَه البيضاء، يخفُّ المدى وينسابُ على اللوحةِ الظمآنة، تحِدّهُ اشتياقاتٌ تبصرُ خُطى الأنفاسِ في معنى الولادةْ

رَبَّتَ على كتفيْ ماءٍ مُتْعَبٍ، مُشْعِلًا قنديلَ المغفرةِ في عتمةِ التدفّقْ، هكذا غاسلًا قدميّ المعرفةِ يمضي في تبرئةِ العدمْ. كذلك متورطًا في الضحكْ، مغسولًا بحرائق راقصةْ، مصلوبًا على خاصرةِ ريحٍ مغناجة، طائرًا في الشبابيكِ العاطلةِ عن العطورْ، غارقًا في تربيةِ الرهفةْ، مذبوحًا في يقظةِ النهارْ، مشتعلًا بمياهٍ من يقين وشكّ، مُلطّخًا بالحدائق ورُفاتِ السفرْ، مسحورًا بليلِ الغريبةِ في هاجسِ اللونِ، تمامًا كلوحةٍ لا تجرؤ على التعري من حصارها.

قلِّمَ أظافرَ الليلِ في جسدِ النُّبوة السافرة، لذا أخطأ المجازُ في فهمِ اللغة المحايدة، علّ أمرًا استثنائيًا ينطقُ عن هوى الغوايةِ المُلتحفة بضوءٍ احترقنَ فيه فراشات كثيرات من أجل نهارٍ أقلّ تطرفًا مما تهلوسُه ألسنة الجدد من الآلهة في البلادْ، نأى عن روائح الكتمانِ الذابحْ، فدنتْ من روحه هواجسُ البوحِ المُرعبة. أنسيان سائل هذا، أم تذكّرٍ ماكرٍ يجدِّلُ ضفائرَ غدِهِ؟ وأرادَ شعرَ أمسِهِ حُرًّا من الحُجبِ، وأرادَهُ مستورًا بقناعةِ النّهرِ في تجدّده.. أين ترقص القصيدةُ إذن، في زفرةِ الإيقاعِ أم في شهقةِ الألمْ؟

أرادَ مدينةً أُخرى، وشوارعَ بأسماءَ لا يعرفها. أراد بدايةً خفيفةً مع بلدٍ لا يتعكّزُ على ذكرياتْ، وروحه فاردة أجنحتها فوق احتمال الريح وحلمه يتسع للمتشرد في متاهاته. رتّبَ الوقتَ على سريرِ الفجائعِ لئلا ينقصُ الهواءُ في صدرِ اللغةْ، هكذا، برتابةٍ، دخّنَ الوطنُ أحلامَه وأفضى به إلى منفضة الهباء، حيث التبذير في مضغ الفراغ!

قال: ليكن جنونكِ عاريًا تمامًا من التباساتهِ، خفيفًا معطرًا بالعبورِ الهادئْ، سريًّا وبصيرًا محملًا بالفراديس والانصهار، ليكن استثنائيًّا في انتفاضاتهِ كالمواءِ المُنفلتْ، انتصارًا كشهقةِ غريقْ، هزيمةً كالعرقِ الينسكب في حرائقك الجامحة.

قال: إنّه فقهُ التبسُّمِ والتباسُ الحالاتِ في رقعةِ النردْ، أيّ رميةٍ آتيةٍ وأيّة مباغتةٍ يترقّبُ الليل.

قال: نَمْ قليلًا أيّها العطرُ الهالكُ كي تحيا عظامَ الشفقةِ في جسدِ الطريقْ، أغمضْ عينيكَ قليلًا كي تَمرّ الغيمةُ إلى حتفِها في غفلةٍ مِنْكَ، افتح قلبَكَ لجيوشٍ جرارةٍ من أوهامٍ رسمتْها يداكَ في أرواحِ العُشّاقِ ومن ثمّ، نَمْ أيّها العطر الحالم!