02-أبريل-2017

صورة تعبيرية (Getty)

الانتظار أن ننتظر وننتظر وننتظر. كمصريين تضيع حياتنا في الانتظار؛ الانتظار في طابور الجمعية، الانتظار في العيادات، الانتظار في المواصلات لساعات في أوقات الذروة وغير أوقات الذروة.

ينتظر الشباب والبنات لدينا لعشرين سنة أو أكثر حتى يعرفوا ماذا تعني كلمة "جنس"؟ ويعيش كثير من المصريين حياته منتظرًا الموت. حتى وهو يستمتع بالحياة يظل الموت حاضرًا. يدفعون الزكاة ويقيمون الفرائض، وينتظرون طول حياتهم اللحظة التي يذهبون فيها إلى مكة والمدينة، كي ينالوا الثواب والرضا، حتى يدخلوا الجنة التي ينتظرونها.

كمصريين تضيع حياتنا في الانتظار، الانتظار في طابور الجمعية، الانتظار في العيادات، والانتظار في المواصلات لساعات

وكأن الانتظار عند المصريين ليس مجرد محطة ينتظرون فيها القطار الذي سيقلهم، أو كرسي في محل الحلاقة تنتظر دورك، إنه فلسفة حياة وطريقة تفكير.

في الأغاني تحضرني أغنية للمطرب محمد منير "الناس نامت إلاي واقف لك في الشباك مستني اليوم الجاي يمكن يسقينا الشاي يمكن يعطينا الناي أنا قد الهوى وقدود لو حتى الهوى نساي". بالطبع كان لهذه الأغنية تأثير كبير، فهي رمزية لأي شاب حالم، مؤمن بحلمه، إنها روح تُخلق في مرحلة الجامعة وبدايات الطريق. أعتقد أنها كانت الأغنية المفضلة لي ولأحد أصدقائي، وأذكر أنه عندما ذكر لي هذه الأغنية وسمعتها لأول مرة بدأت أفهم شيئًا في شخصيته وهو أنه صلب في سعيه لتحقيق حلمه.

اقرأ/ي أيضًا: تداع حر في عالم يتهاوى

ما يعلمنا إياه محمد منير في الأغنية ذكرته طبيبة نفسية تقول إن معظم الناس الناجحين في تحقيق الشيء الذي يرغبونه متناغمين مع الرفض والفشل، لا يدفعهم الفشل إلَّا إلى المزيد من الثبات. فإذا رفضت حبيبتك، تحاول أكثر، وإذا فشلت في تحقيق ما تريده في عملك، تعيد المحاولة مرة ومرة ومرة.

أما أنا فأجدني غريبًا بعض الشيء عن "الإحساس العام"؛ فأنا لا أنتظر شيئًا من بشر مثلما أنتظر من الله. مهلًا، أنا لا أتحدث هنا عن الدين أو التقوى أو الزهد الديني، ولكني قليل الثقة في البشر خاصة في المناطق التي تتعلق باستمتاعهم بالحياة، والانتشاء بها بشكل عام، وبشكل أخص البشر الذين يعيشون في ظروف حرمان اقتصادي ونفسي واجتماعي فرض عليهم وتقبلوا هذا الفرض بقبول حسن، أو بقبول الشاطر حسن!

لذا أنا أنتظر هذا الخلل في كيمياء المخ، هذا الانحراف في البرمجة التي بُرمجنا عليها جينيًا أو تربويًا. معظم هؤلاء الأشخاص ذوي الجينات النادرة في جيلي عرفت معهم معنى الصداقة والمشاركة والحميمية، بخيال محمد منير أنا لا أنتظر في الشباك، ولكن أشتري عودًا وأذهب إلى بابها، أو أنتظرها حتى تنزل وأخبرها أني أحب أن أسمع عزفها.

معظم الأشخاص ذوي الجينات النادرة في جيلي عرفت معهم معنى الصداقة والمشاركة والحميمية بخيال أغاني محمد منير

إذا وجدت في عيونها شغفًا بالعزف ستكون أحلى اللحظات، وإن لم أجد أعتذر عن مضايقتها وأرحل بسلام. لذا أجدني غير منسجم مع أغنية محمد منير أو عزيزة جلال "مستنياك"، على رغم أنني أفاجأ بي أحيانًا أردد تلك الأغاني وأنا أستحم أو أطهو الطعام أو أحلق ذقني بأداء ساخر غير بعيد عن أداء المهرجانات. هذا النوع من الغناء يعكس مزاجية طائفة أنا منهم، طائفة تسخر من هذا الانتظار، وهذه الجدية في الانتظار أكثر من الجدية في اللقاء.

لكنني اتناغم فنيًا مع أغانٍ مثل "what do you want from me" لفريق الروك البريطاني بينك فلويد. تحكي هذه الأغنية عن رجل يجلس وآخر يدخل يحوم حوله في الغرفة، الرجل الذي تتحدث الأغنية على لسانه يشعر بالفزع على روحه. وبخيال محمد منير فإنك وأنت تجلس مع التي تنتظرها في الشباك، تعرض عليها الناي لتغني، وتعزمها على "كوباية شاي"، أحيانًا كثيرة -ليس دائمًا حتى لا أبالغ- لا تجد في عينيها الشغف بالعزف، و"كوباية الشاي" مثل الخوف والكبت، تتساءل أغنية بينك فلويد "تريدين دمي؟ تريدين دموعي؟ ماذا تريدين؟ ماذا تريدين مني؟ هل يجب أن أغني حتى أصبح غير قادر على الغناء مرة أخرى؟ هل يجب أن أعزف على هذه الأوتار حتى ينسلخ الجلد عن أصابعي؟ أنتِ صعبة الإرضاء للغاية"، وفي اللحظة التي تحررت فيها فتاته خافت أن تفقد سيطرتها على نفسها، خافت من عفويتها، من الفرح والانتشاء، شعرت بذنب كبير لمشاعر لم تألفها روحها.

وفي مقطع الأغنية التالي يتساءل الفريق: "هل تريدين منِّي أن أقف تحت المطر بالخارج؟ هل تريدين أن أصنع لكِ عقدًا من الزهور؟ ماذا تريدين مني؟ بيعي روحك من أجل السيطرة الكاملة، هل هذا حقًا ما تريدينه؟"، أو على حد تعبير إحدى صديقاتي الطموحات: "أفضِّل أن أعيش حياتي وأنا مكتئبة وحزينة، ما دمت مسيطرة عليها، على أن أعيشها وأنا أغرق في البهجة لكنني عاجزة عن السيطرة".

وستظل المشكلة في الانتظار الطويل أننا نقوم بأشياء كثيرة؛ نتصفح "فيسبوك"، نستمع إلى أغنية خفيفة مبهجة أو حزينة، نتصل بصديق أو صديقة ونحن على متن حافلة، لنلغوا قليلًا، حتى نصل إلى وجهتنا، ونكمل هذا اللغو بعلامات الإعجاب على "فيسبوك"، أو ندندن أغنية حفظناها وشبعنا من ترديدها. لغو في كلام محفوظ على التليفون، ولكننا ننتظر شيئًا آخر ولا ننتبه لذلك، إن ما نقوم به في المواصلات، وفي انتظار دورنا في الحلاقة هو لتقضية الوقت لا أكثر. طول الانتظار خلق لدى كثير من الناس أفكارًا وعادات وسلوكيات متعلقة بانتظار شيء ما، حتى لو حققنا الشيء الذي نريده لا نستمتع به أو نعيش لحظتها.

اقرأ/ي أيضًا: نحن والحياة والأسئلة الدائمة

فكر لحظة، هل يوجد شيءٌ تفعله وتغرق نفسك فيه بمتعة وانتشاء؟ الطعام، الشراب، الجنس، الحفلات، السياحة، العمل دائمًا؟ إن عقل معظمنا متعلق بهدف آخر، تنام مبكرًا حتى تستيقظ باكرًا وتلحق عملك، تتناول فطورك سريعًا حتى تلحق بالحافلة، حتى تذهب إلى العمل، تعمل وتتحمل ملل وروتين العمل حتى تحصل على المال اللازم لسداد فواتيرك وإشباع احتياجاتك، تستريح في إجازة الأسبوع حتى تعاود العمل في أوله.

وما يعجبني في التصوف وبوذية "الزن" وهي طائفة يابانية، أنها فرق وأديان تقوم بشكل كامل على أن تعيش هذه اللحظة، فلدى المتصوفة الجنة والنار ليس في الدنيا فقط، ولكنها أيضًا في اللحظة التي تعيشها الآن: "من لم يدخل جنة الدنيا لا يدخل جنة الآخرة". وبوذية "الزن" تقوم بشكل كامل على ممارسة الحياة، أن تستمتع بوجودك، بتنفسك وطعامك وشرابك وضحكك وبكاءك، أن تحيا اللحظة، كل لحظة بحب وشغف، إنها أفكار غريبة ليس فقط على مجتمع مثل مجتمعنا، ولكن على قطاع واسع من الطبقة الوسطى.

لنذهب إلى مدى أوسع، إلى الأحلام الكبرى، كثير منا لديه حلم كبير؛ إما حميمي كأن يجد المرأة التي يتناغم معها بشكل كامل ويتشاطرا خبراتهما معًا، أو أحلام أخرى -أفضِّل أن أسميها الأحلام المصطنعة- مثل أن يصبح المرء طيارًا، أو عارض أزياء، أو فنانًا تشكيلية، أو ممثلًا، ولكن ماذا يحدث لو واجه أحدنا حلمه؟

ليس لدي ثقة في البشر خاصة فيما يتعلق باستمتاعهم بالحياة، وبشكل أخص البشر الذين يعيشون في ظروف حرمان اقتصادي ونفسي واجتماعي

تقول صديقتي إنها ومنذ نضوجها لديها شغف بممارسة حميمية مع شخص تحبه، يتبادلان الكهرباء الغامضة، وعندما جاء هذا الشخص، وعندما بات الزمن كريمًا معهما وحانت لحظة الرقص بدلًا من أن تبادله قبلته ضربتْه، وأشبعته سبًا وانتقادًا. كانت مندهشة من تصرفها، كانت تكن بداخلها نقيض ما أظهرته. ماذا حدث؟ لم تعرف ما حدث سوى أنها كانت تبكي وفي لحظة اكتشفت الحقيقة: "اكتشفت أنني أصبحت منسجمة أكثر مع الكبت والحزن، وأنني غير قادرة على الفرح، غير قادرة على أحلامي، أن أصبح موسيقية، أو أكون متجاوبة مع الشخص الذي أحببته". ضحكتُ، طبعًا صديقتي غضبت، قلت لها إنها ليست أزمتك، إنها أزمة شريحة واسعة من بقايا الطبقة الوسطى في العالم.

يحضرني فيلم "عيون مغلقة باتساع" لنيكول كيدمان وتوم كروز. زوجان مثاليان، هي ربة منزل وهو طبيب ناجح في عيادته الخاصة، يتردد على عيادته علية المجتمع. في لحظة وهو يدخن الحشيش مع زوجته قالت له "أنا لم أخنك، ولكني لا أحبك، لم أحب سوى شخص واحد لم أعرفه، كنا جالسين معًا وهو جالس في الطاولة التي خلفنا، نظر إلي، حينها لو قال لي اتركي زوجك وأولادك وتعالي معي لفعلت". لحظة وعي كتلك التي اختبرتها صديقتي.

ولكن الموضوع تعدى ذلك، فقد استيقظ الزوج (توم كروز) ذات ليلة على زوجته وهي تضحك في حلمها، قلق عليها وأيقظها، وعندما فتحت عينيها، حزنت وبكت وخافت، قالت له احضني، كي تستجمع شجاعتها وتحكي له عن الكابوس. رأت نفسها عارية وشباب يغتصبونها وهي سعيدة، ما أزعج الزوجة المحافظة (نيكول كيدمان) التي تتحمل مسؤولية أولادها ولا تخون زوجها، ليس أنها مارست الجنس الجماعي، ولكن أنها استمتعت به.

اقرأ/ي أيضًا: صديقي المجنون

فيما يصاب زوجها بالذعر عندما عبرت إحدى قريباته عن إعجابها به، وقبلته رغمًا عنه، قبل أن يأتي خطيبها، تذكر كلام زوجته، حاول الزوج الانحراف ولكن أخلاقه منعته، ذهب خلف عاهرة جميلة ولكنه عندما خلا بها خاف وقلق، وأحبط كل محاولاتها لإغرائه، وذهب بالصدفة متنكرًا إلى إحدى حفلات الجنس الجماعي التي يقيمها أحد أغنياء المجتمع الأمريكي، كما قال صديقه إنهم رجال أعمال ومخابرات وشرطة وشخصيات نافذة لو سمعت عنهم لأصابك الرعب مدى حياتك، وعندما اكتشفوا أنه ليس منهم، هددوه وتوعدوه عبر صديق له كان يتردد لعيادته، "انس كل ما رأيته، وأكمل حياتك، هؤلاء الناس لا يمكنك التعامل معهم، ولا تحاول أن تفهم ما الذي يحدث". أما صديقه الثري فكان يتعاطى الكوكايين، والمخدرات الثقيلة، ويعيش حياته متحررًا من أخلاقيات الطبقة الوسطى.

لقد اعتدنا طويلًا الانتظار لدرجة أن تحقيق أحلامنا نفسه قد يرعبنا

بطريقة ما يذكرني الفيلم بثورة 25 كانون الثاني/يناير، هذا الحلم الذي لا يجسد فقط حلم المصريين ولكن حلم البشرية الذي انتظرته طويلا؛ أن ينزل الناس حشودًا إلى الشوارع خلف أهداف إنسانية مثل الحرية والعدل، لا لغايات دينية أو قومية أو وطنية، وإنما سقوط السلطة بكل أشكالها، أن يحكم الشعب نفسه. عمال المصانع استولوا على المناصب الإدارية وقرروا أن يديروا المصانع بأنفسهم، سكان المناطق الشعبية انتزعوا من الضباط أسلحتهم وامتلكوها، سيحمون أنفسهم بأنفسهم، شباب التحرير رفضوا أي شكل من أشكال السلطة ونادوا بحكم الشعب، لكن لم تمر شهور حتى سلَّم أبناء المناطق الشعبية أسلحتهم لقسم الشرطة، وانتظر عمال المصانع قرار المحكمة لتصبح إدارتهم للمصانع بأنفسهم شرعية، وسلم قسم من شباب الثورة السلطة للجيش.

لقد اعتدنا طويلًا الانتظار لدرجة أن تحقيق أحلامنا نفسه قد يرعبنا. وقد رصد علماء النفس تلك الظاهرة وسموها "الخوف من النجاح"، ويقصد بها الشخصيات التي عندما تقترب من تحقيق أهدافها تصيبها حالة فزع وتفشل نفسها بنفسها. وقام إريك فروم بمد هذا المفهوم إلى "الخوف من الحرية"، ويعني أن البشر نتيجة لمرورهم بمرحلة القمع الطويل، واعتمادهم المهين على السلطة في إدارة حياتهم، وفي قناعاتهم الدينية والأخلاقية، بات لديهم فوبيا (خوف مرضي) من أن يستولوا على السلطة؛ صار لديهم ذعر من الحرية.

لذا أرى في الأغاني التي تمجد الاستمتاع باللحظة، وانتقاد حالة الخوف من الفرح والحلم مثل أغنية بينك فلويد، ومعظم أغاني رودريجيز تمثل حالة ثورية إنسانية وطبيعية للغاية. الأفكار والطوائف والملل والأديان التي تقول لك لا تنتظر جنة الغد، إنها أمامك هنا والآن ومن لم يدخل جنة الدنيا لا يدخل جنة الآخرة، هي أفكار ثورية، ولهذا السبب ربما أجد أني أفضِّل عندما أتذكر أغاني البعد والخوف التي تربيت عليها في الصغر أن أنشدها بطريقتي الخاصة الساخرة كأن تصبح أغنية "مستنياك" لعزيزة جلال: "مستنياك يا عيني عليا تعبت تعبت من الأشواق".

اقرأ/ي أيضًا:
لماذا نكتب؟
في مهب الحرب