04-أبريل-2022
لوحة لـ بطرس المعري/ سوريا

لوحة لـ بطرس المعري/ سوريا

إنّ تاريخ الأدب العربي هو تاريخ حافل بالنصوص الشِعرية والنثرية والروائية، التي تناولت شهر رمضان باعتباره ظاهرة اجتماعية مميزة تستحقّ الكتابة عنها وتسليط الضوء على ما فيها من جماليات وطقوس روحانية ومظاهر اجتماعية خاصة، ورغمَ أنّ هناك العديد من تلك النصوص التي جاءت لتأخذ الطابع الاحتفائي بهذا الشهر وما فيه من طقوس وروحانيات، إلا أنّ هناك العديد من النصوص الأخرى التي جاءت بما يُلقي الضوء على مواضيع حساسة متعلّقة به، حيثُ إنّها جاءتْ لترصد طقوسه بعين متبصّرة ناقدة تحتفي بها دون أن تنسى إثارة الأسئلة الوجودية الكبرى حولها وعليها.

حاول يوسف إدريس من خلال قصة "رمضان" في مجموعته "جمهورية فرحات" رصد طقس "شعيرة" الصيام بعين متبصّرة ناقدة

ويُمكن القول بأنّ قصة "رمضان" التي تضمنتها المجموعة القصصية ليوسف إدريس وجاءت تحت عنوان "جمهورية فرحات" هي من ذلك النوع من النصوص التي حاول إدريس من خلالها رصد طقس "شعيرة" الصيام في رمضان بعين متبصّرة ناقدة، حيثُ احتفى به دون أن يُنسيه ذلك أنّه طقس يحتمل إثارة الأسئلة الوجودية الكبرى حوله، وخصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالأطفال في مراحلهم العمرية الأولى الذين يكونون فيها في توق وشوق إلى الدخول وتجربة هذا الطقس ومشاركة آباءهم والكبار من حولهم به، حيثُ تكون تجربتهم الأولى معه –وما قد تحويه من مشقة وتعب- مثار أسئلة مشروعة في أذهانهم.

تحكي قصة "رمضان" في "جمهورية فرحات" حكاية فتحي، الطفل ذا العشر سنوات الذي يتوق لتجربة طقس الصيام مع والديه في رمضان، تَروي القصة أنّ محاولات فتحي بإقناع والده بأن يصوم بدأت عندما كان عمره سبع سنوات، وأنّ والده رفض وقال له أنّه لا يصحّ له الصيام قبل بلوغه الثامنة، وتُورد بأنّ فتحي عندما بلّغ الثامنة ذكّر والده بما قال له فأصّر والده على رفضه صيامه معّلّلًا ذلك بقوله: "لا صيام لمن لا يُصلي".

تحكي القصة أنّ فتحي ونظرًا لتوقه للصيام قرّر أن يُصلي، حيثُ واجه صعوبات كثيرة في تأدية هذه الفريضة سواء في بيته أو المسجد؛ ففي البيت كان والده يُشكك دائمًا في مدى صحة وضوئه وطهارته، أما في المسجد فكان الرجال الكبار الآخرين ينبذونه دائمًا –هو والأولاد الآخرين معه- ويتوجهون له بعبارات استعلائية تنتقده وتوّجه له الملاحظات حول صحة وضوئه أو مكان وقوفه لأداء الصلاة في الصفوف الأولى.

تذهب القصة بعدها إلى الدخول عميقًا في عوالم فتحي الداخلية، وتُبيّن أنّ إصراره على تجربة الصيام كان باعثه الأول رغبته الملحة في مشاركة والديه طقس سحورهم الليلي، تُوضح القصة بأنّ تصورات السحور في ذهنية فتحي كانت تصورات عجائبية تَجعلُ منه طقسًا ذا تفصيلات جمالية خاصة؛ سواء تعلّقت تلك التفصيلات بأصناف الطعام المقدمة فيه والتي يُمتِعُه أن يُتابع كيفيات التهامها من قِبل والديه، أو تعلّقت بالأحاديث التي يثيرها والديه وهما يتناولانه وتكون أحيانًا أحاديث لا يفتحانه معه في العلن تدور حوله وحول مستقبله.

العربي-التلفزيون

تُظهر القصة فتحي بمظهر المتلصّص الدائم على حادثة السحور العظمى التي تجري أمامه في كلّ رمضان دون أن يشارك فيها، حيثُ تُورِد أنّ شكل حضوره فيها اقتصر على صفته كمتلصّص يستلقي في فراشه ليشهدها عن بُعد ويتصوّر تفصيلاتها بالاستماع، وتَحكي بأنّ شكل حضوره فيها ظلّ في هذه الصفة حتى جاء ذلك اليوم الذي سُمِح له بالصيام.

تَبدأ القصة هنا بالحديث عن فرحة فتحي بالدخول إلى طقسِ الصيام لأوّل مرة، حيثُ تُبيّن كيفية استعداداته لمشاركة والديه سحورهما للمرة الأولى، وتَحكي أنّ مشاركة فتحي لوالديه في سحورهما كان كفيلًا بنزع طابع السحرية والعجائبية عنه، فانتقاله من مساحة الممنوع إلى المسموح لديه كَشَف له فرط العادية في هذا الطقس الذي كان يُبالغ في الذهاب في خيالاته وتصوراته عنه بعيدًا.

يعاين يوسف إدريس تجربة اليوم الأوّل في صيام طفل، وكأنه يروي حكاية كلّ طفولة عربية وإسلامية في دخولها في هذه التجربة لأوّل مرة

تَستكمل القصة روايتها حول فتحي في تجربة اليوم الأوّل في الصيام له، وتأتي هنا كمن تروي حكاية كلّ طفولة عربية وإسلامية في دخولها في تجربة الصيام لأوّل مرة، تَحكي القصة تململات فتحي من مشقة الصيام، حيثُ أنّ عطشه بلغ إلى حدٍّ لم يستطع معه تحمله، وهو الأمر الذي أدى إلى توارد حديث ذاتي بينه وبين نفسه حول منظومة العقاب ضمن دائرتي العَلن والخفاء.

تُوضّح القصة أنّ شهر رمضان (في إشارة رمزية إلى الإله) في رأس فتحي كان يحضر باعتباره ممثّلًا لتلك المنظومة، حيثُ كان يعتقد بأنّ شهر رمضان هو من يتكفّل بإيقاع العقوبة على الصائم الذي يتجرّأ على ارتكاب الجريمة المتمثلة في الإفطار وخرق طقوسه، ويُمكن القول هنا بأنّ فعلة "شُرب الماء" في ذهن فتحي تَظهر في القصة كما لو كانت فِعلة ذات طابع جرمي، يستحقّ مرتكبها إيقاع أقصى العقوبة عليه.

وتُورد القصة –ضمن الإطار السابق- أنّ فتحي دخل في حوارات مطوّلة بينه وبين نفسه حول حقيقة وجود المعاقِب المسمى شهر رمضان من عدمه، وأنّ تلك الحوارات الداخلية انتهت بوصوله إلى نتيجة مفادها عدم وجود ذلك المعاقِب، وهو الأمر الذي قاده إلى أن يتجرّأ على شربِ الماء بالخفاء –بعيدًا عن أعين والديه- مرارًا وتكرارًا.

تَحكي القصة في مشاهدها الختامية أنّ فتحي بقيَ مصرًا على ارتكاب جريمة شرب الماء في الخفاء حتى جاء ذلك اليوم الذي انكشف فيه أمره أمام والديه، فوبخاه وعاقباه بالضرب وأجبراه على الصوم عنوة ورغمًا عنه، وتأتي القصة هنا ووكأنّها تُحاول التعرّض لمسألة منظومتيْ الترغيب والترهيب ضمن حدود الدين الإسلامي وتأثيرهما على الأطفال عمومًا، حيثُ تُخبر أنّ منظومة الترغيب -التي جاءت متمثلة بجماليات التصورات الطفولية عن الطقس الديني (السحور) في حالة فتحي- تكون كفيلة في أغلب الأحيان بتقريب الشعائر والطقوس الدينية من ذهنيات الأطفال وفي زيادة شوقهم وتوقهم إليها، في حين أنّ منظومة الترهيب المتمثّلة بالضرب والإرغام تأتي لتُنشئ الأطفال تنشئة قائمة على النفاق الديني والإيماني، حيثُ تدفع بهم نحو الدين ونحو أداء شعائره وطقوسه مرغمين ومجبورين بدوافع الخوف، لا من الإله الذي يُؤمنون به، بل من أولئك الذين يظهرون كمراقبين يَعملون في خدمته على الأرض، ففتحي يظهر في نهاية القصة كطفل يصوم ويُواظب على الصيام بدوافع الخوف لا من الإله الذي يؤدي من أجله طقس وشعيرة الصيام بل من والديه اللذيْن يحضران في القصة كمعاقبين فِعلييْن يستخدمهما رمضان (إشارة إلى الإله) في فرض شعائره عليه بالقوة، وذلك في مناقضة واضحة لكلّ مبادئ حرية الاعتقاد التي تُعتبر من الأسس التي يستند ويقوم عليها الدين الإسلامي!