26-أكتوبر-2022
كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

في العام 1942 تقدم قارئ إلى عباس محمود العقاد ببيتين من الشعر زاعمًا أنهما لابن الرومي:

سقته ندى السحب من مرضعاتها / أفانين مما لم تقطره مرضع

كألفي رضيع من بني النضر ضمنوا / محاسن هذا الكون والكون أجمع

وسأل القارئ العقاد: كيف تقول عن ابن الرومي أنه شاعر عالمي؟ أين العالمية في هذين البيتين؟

اختار محرر عينة عشوائية من مانشيتات وعناوين صحفية متنوعة، ثم دمجها وجعلها على هيئة قصيدة حداثية، وقدمها إلى عدد من الأدباء والنقاد البارزين على أنها له فأشادوا به

فما كان من العقاد، الخبير في شعر ابن الرومي ومؤلف كتاب شهير عنه، إلا أن انبرى مدافعًا عن شعرية البيتين، مؤكدًا أنهما "مما لا يعيب ابن الرومي أو غيره من الشعراء".. وكانت المفاجأة إعلان القارئ بأن البيتين من تأليفه هو وليس لهما أدنى علاقة بابن الرومي!

كيف شرب العقاد "المقلب"؟! كيف لم ينتبه إلى ما في البيتين من ركاكة في اللغة والأسلوب وضحالة في المعنى؟ كيف فاته بعد المسافة الزمانية والمكانية بين ابن الرومي وبني النضر ما يجعل المديح بلا أي مناسبة أو تبرير؟!

في مطلع الستينات قدم محرر في مجلة "الكواكب" المصرية مسرحية "الهواء الأسود" لأربعة من النقاد الكبار في ذلك الوقت، وقال إن المسرحية، التي قام هو بترجمتها، هي من تأليف الكاتب العالمي الشهير فريدريش دورينمات. بالطبع انهال النقاد بكلمات الإطناب محللين ومفسرين ومؤولين أسلوب دورينمات ومقاصده وثيماته.. ليأتي المحرر ويكتب في ذيل كلمات النقاد في المجلة معلنًا أنه هو مؤلف المسرحية وقد كتبها عابثًا لاهيًا دون فكرة أو هدف أو مضمون من أي نوع!

في الثمانينات كرر محرر في جريدة سورية التجربة نفسها تقريبًا: اختار عينة عشوائية من مانشيتات وعناوين صحفية متنوعة، سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلانية، ثم دمجها وجعلها على هيئة قصيدة حداثية، وقدمها إلى عدد من الأدباء والنقاد البارزين والذين لم يتوانوا عن الثناء والتشجيع والتنبؤ بمستقبل باهر لهذا المحرر الذي قرر أن يصير شاعرًا!

وفي سابقة فرنسية من القرن التاسع عشر، وقع أعضاء الأكاديمية الفرنسية (مفخرة فرنسا عبر العصور) ضحية لقصة احتيال مدوية. بطلة القصة اسمها لويز كوليه، امرأة جميلة جدًا وشاعرة رديئة جدًا، وكانت قد نجحت في إغواء كوزان، أحد أعضاء الأكاديمية البارزين، فراح هذا يرتب لها الفوز تلو الآخر في المسابقات الأدبية التي تشرف عليها الأكاديمية. وفي مرة وقبيل إحدى هذه المسابقات شعرت كوليه أنها عاجزة عن كتابة أي قصيدة، فاستعانت بصديقها غوستاف فلوبير، الروائي الفرنسي الشهير، وصديقه بويليه.. استضافت الاثنين في بيتها وطلبت منهما تأليف قصيدة تضع اسمها عليها من أجل المسابقة، بل أنها حبستهما في غرفة ومنعتهما من الخروج قبل إتمام المهمة. سهر الصديقان حتى الفجر دون أن تجود قريحتهما بأي عبارة، وفي لحظة يأس أمسك أحدهما بمجلد من أشعار لامارتين وراح يملي على الآخر عددًا من الأبيات. انطلى الأمر على كوليه ذلك أنها لم تكن قد قرأت شيئًا من المجلد الموجود في بيتها، وانطلى الأمر أيضًا على أعضاء الأكاديمية (القيمين على اللغة والأدب الفرنسيين) إذ تبين أنهم لا يميزون أبيات وكلمات شاعر فرنسا الأعظم والأشهر، ففازت كوليه بالجائزة، لتصحو فرنسا في اليوم التالي على فضيحة سوف يخلدها التاريخ.

وفي قصة معاصرة، من الولايات المتحدة هذه المرة، قررت هيئة البريد الأمريكية تكريم الشاعرة مايا أنجيلو عبر إصدار طابع تذكاري يحمل واحدًا من أبياتها الشعرية. استعانت الهيئة بمستشار بارز، ناقد وأكاديمي، ليختار بيتًا مناسبًا، فرأى هذا أن الأنسب هي هذه العبارة: "لا يغني العصفور لأن لديه إجابة.. يغني لأن لديه أغنية". صدر الطابع بالفعل مزينًا بالعبارة التي من المفترض أنها من أشعار أنجيلو، وقد نال إشادات حارة من نقاد وشعراء ومهتمين، وسارت الأمور على ما يرام لولا أن صحفيًا في الـ "واشنطن بوست" فجر هذه المفاجأة: بيت الشعر المذكور ليس لمايا انجيلو، وإنما للشاعرة وكاتبة قصص الأطفال، جوان ويلش إنغلاند، وهو موجود في مجموعتها "فنجان شمس" المنشورة عام 1967.

التاريخ، قريبه وبعيده، مليء بقصص التزييف وضحاياه، وقد جاءت شبكة الانترنت لتسهل عمل المزيفين وتعطيهم دفعة إضافية

 

ربما أن المثقف البارز الذي استشارته الهيئة لم يكن قد قرأ أيًا من كتب أنجيلو والتقط من على النت عبارة منسوبة إليها خطًا، أو ــ من يدري؟ ــ ربما أراد الرجل أن يصنع "مقلبًا" كبيرًا بالوسط الثقافي الأمريكي برمته!

التاريخ، قريبه وبعيده، مليء بقصص التزييف وضحاياه، وقد جاءت شبكة الانترنت لتسهل عمل المزيفين وتعطيهم دفعة إضافية، إذ من يقنع قراء "الفيسبوك" اليوم أن ثلاثة أرباع المقبوسات المنسوبة إلى دستويفسكي لم يكتبها دستويفسكي في أي مكان، وأن الماغوط لم يكتب هذه الأشعار التافهة، وأن مارك توين لم يكن مهذارًا إلى هذا الحد، وأنه لا يمكن لبرنارد شو أن يكون قد قال كل هذه النكات؟!