29-أغسطس-2019

يبقى نعوم تشومسكي باحثًا فاعلًا رغم بلوغه التسعين (تويتر)

منذ أشهر قليلة احتفل أستاذ اللسانيات والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي بعيد ميلاده التسعين، ومع ذلك يظل نشطًا كعادته في مجالات البحث في علوم اللغة والإدراك وفي نشاطه السياسي ونقده للأوضاع السياسية في الولايات المتحدة. منذ طرح نظريته في النحو التوليدي في ستينات القرن العشرين وحتى اليوم ظل نعوم تشومسكي علمًا من أعلام علم اللغويات الحديثة ومن مؤسسيه إلى جانب عمله المهم في مجال علوم الإدراك ونشاطه السياسي الدؤوب الذي لم ينقطع مذ بدأ في مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام وحتى اليوم.

يسهب تشومسكي في هذا الحوار، مبينًا أن المسار الذي تسير فيه علوم تعلم الآلة لا تقدم أي إسهام للعلم بشكل عام ولعلوم الإدراك تحديدًا لأنها عاجزة عن طرح الأسئلة العلمية الصحيحة

في هذا الحوار الذي أجرته معه إيمي براند الباحثة في مجال علوم الاتصال والمعلومات ومديرة مركز النشر والصحافة في معهد ماساتشوستس، يتحدث تشومسكي عن نقده للمسار الذي تسير فيه الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وعن آخر أعماله في مجال اللغويات ورؤيته تجاه الأوضاع السياسية والأزمة البيئية.

اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي: إسرائيل رأس حربةِ قتل الديمقراطية

يسهب تشومسكي في هذا الحوار، مبينًا أن المسار الذي تسير فيه علوم تعلم الآلة لا تقدم أي إسهام للعلم بشكل عام ولعلوم الإدراك تحديدًا لأنها عاجزة عن طرح الأسئلة العلمية الصحيحة، حتى ولو كانت مفيدة في صناعة أجهزة أو استكشاف خصائص العمليات الحسابية المستخدمة. ويضرب مثلًا على ذلك ببرنامج تحليل الجمل الخاص بغوغل والذي لا يخدم سوى أهداف هندسية ضيقة ولا يقدم أي إسهام حقيقي في علوم اللغويات الحديثة. فيما يلي مقتطفات من نص الحوار.


  • تظل فاعلًا كعادتك، على أكثر من صعيد، تتعاون مع الزملاء من مجالات مختلفة مثل علوم الحاسب وعلوم الأعصاب وعملت على مجموعة من الأوراق البحثية في السنوات الأخيرة.. ما المشروع الذي تعمل عليه الآن؟

تكون العودة إلى البدايات مفيدة أحيانًا. في أربعينات القرن الماضي اتخذت النحو التوليدي وتجاربي فيه هواية لي. انصب اهتمامي جزئيًا على  محاولة شرح البيانات في نحو توليدي صريح محكوم بالقواعد، والأهم منه محاولة استقصاء مسألة بساطة النحو أو "أقصر برنامج" بتعبير علوم الحاسوب، وهي مشكلة ليست بالهينة، لأنها تتطلب حسابًا باليد بسبب تعقيد أنظمة القواعد النحوية محكمة التنظيم. عندما ذهبت إلى هارفارد بعدها بمدة قصيرة، التقيت موريس هالي وإريك لينبيرغ. وسريعًا أصبحنا أصدقاء مقربين، لأننا تشاركنا قدرًا من الشكوكية تجاه مذاهب العلوم السلوكية السائدة، والتي كانت أشبه بعقائد قطعية الثبوت في ذلك الوقت. هذه الاهتمامات المشتركة أدت إلى إنشاء مجال معرفي سمي لاحقًا "باللغويات البيولوجية"، وهي دراسة النحو التوليدي باعتباره خصيصة من خصائص الكائن البيولوجية. (أسس إيريك لاحقًا مجال بيولوجيا اللغة المعاصر عبر عمله الذي أصبح من كلاسيكيات المجال).

داخل الإطار البيو-لغوي، بدا على الفور أن الهدف المقدس للأبحاث سيكون تقديم تفسيرات مقبولة للخصائص الأساسية في اللغة على أساس مبادئ النحو التوليدي، تلبي شرطين هما القابلية للتعلم والقابلية للتطور. هذا هو المعيار الذي يحدد مدى مصداقية التفسير. لكن هذا الهدف كان حينها سرابًا بعيد المنال. 

كانت المهمة الآنية التي تطلبت اهتمام الباحثين هي محاولة فهم هذا القدر الكبير من البيانات الجديدة والمشاكل التي تراكمت سريعًا مع المحاولات الأولى لإنشاء نحو توليدي. بدا أن فعل ذلك يتطلب آليات معقدة. لن أذكر تاريخ المجال منذ ذلك الحين، لكن الدافع الأساسي كان محاولة إظهار أن الافتراضات الأبسط والأكثر انضباطًا يمكنها أن تؤدي إلى نتائج تجريبية أفضل على المدى الواسع.

في بدايات عقد التسعينات بدا للبعض منا أن تحقيق الهدف المستحيل أصبح ممكنًا: أن نتبنى أبسط الآليات الحسابية التي تحمل على الأقل أبسط خصائص اللغة، ومحاولة شرح الخصائص الأساسية للغة من خلال هذا النموذج، النموذج الذي سمي بالـ "أطروحة الا القوية". وأعتقد أنه هذا المسعى شهد تقدمًا كبيرًا حتى وقتنا الحاضر، وبدأت أول النماذج التي تفسر الخصائص العامة في اللغة التي تحقق الشرطين التوأمين في الظهور.

أمام الباحثين اليوم مسعى يتكون من عدة مهام. المهمة الأولى هي تحديد مدى قدرة الأطروحة التقليصية القوية على الإحاطة بالقواعد الأساسية للغة التي ظهرت تحت مبضع البحث في السنوات الأخيرة والتعامل مع التجارب الحيوية، خصوصًا تلك التي تكشف عن مبادئ عمل ملكة اللغة والمسؤولة عن امتلاك الكائن للغة.

المهمة الثانية هي التفرقة بين المبادئ الخاصة باللغة، أي الخاصة بالبنية الفطرية للملكة اللغوية، والمبادئ الأخرى الأكثر عمومية. أوضح مثال على ذلك في هذا السياق هو مبادئ الكفاءة الحسابية، وهذا ليس مفاجئًا بالنسبة لنظام حسابي مثل اللغة. وتبرز من بينها المبادئ الحسابية للأنظمة الحوسبية ذات المصادر قصيرة الأمد، وهي فئة تبين أن لها أهمية تجريبية حيوية للغاية. ومهمة أخرى هي صقل مجموعة المبادئ هذه  لتشمل المبادئ التي تلعب دورًا مهمًا في تقديم تفسيرات أصيلة واستبعاد المبادئ التي تبدو مشابهة لها، لكنها في الحقيقة لا تحظى بأي مشروعية نظرية أو تجريبية.

هناك تقدم مثير في كل هذه المساحات، لكن يبدو أنه الوقت المناسب لإجراء مراجعة شاملة لكل هذه التطورات، وهو ما قد يكون مفتتح مرحلة جديدة ومثيرة في مجال بحثي قديم.

باختصار، أرى أنه لأول مرة أصبح بإمكاننا رؤية "أهدافنا المقدسة" في العديد من المجالات الجوهرية، بل وأصبحت في متناول أيادينا. هذا هو موضوع عملي مؤخرًا وآمل أن أتمكن من جمعه قريبًا.

  • احتفلت مؤخرا برفقة عدد كبير من الأصدقاء و الزملاء هنا في الحرم الجامعي بمعهد ماساتشوستس للتقنية، بعيد ميلادك التسعين. كثيرًا ما تكون هذه العتبات المميزة في عمر المرء مناسبة جيدة للتأمل، حتى وهو يتطلع للمستقبل والمضي قدمًا. لو نظرت لأعمالك منذ بدأت وصولًا إلى هذه اللحظة، ما  الإضافة النظرية الأهم التي قدمتها لمجال اللغويات من وجهة نظرك؟

طرح نوع جديد من الأسئلة  ومواضيع البحث.

  • هذا سؤال عام لكنه يعبر ربما عن روح العصر الذي نعيشه الآن: ما الذي يدعونا للتفاؤل اليوم؟

العديد من الأشياء. أولها، أن الوقت الذي نعيش فيه خطير جدًا، ووصل لدرجة من خطورة لم يسبق لها مثيل على مر التاريخ، وإذا لم نتعامل بفعالية مع تهديدات الحرب النووية والكوارث البيئية المتزايدة، سيصل التاريخ البشري إلى نهايته. يتطلب هذا الأمر عكس مسار الولايات المتحدة وكذلك روسيا، في مسعاهم لتفكيك معاهدات وإجراءات السيطرة على الأسلحة، لتطوير أنظمة أسلحة أكثر فتكًا من أي وقت مضى. هذا بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم ترفض الانضمام إلى العالم في محاولته لفعل شيء حيال الأزمة البيئية الحادة وحسب، بل تسعى  بقوة إلى تصعيد الأزمة البيئة، وهو شكل من أشكال الإجرام لم يشهد مثله في التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي: محاولة تأبيد بوتفليقة في الحكم مهزلة طائشة تتبعها عواقب وخيمة

هذه ليست مهمة سهلة، لكن بإمكان البشر تحقيقها. لقد شهدت البشرية على مدار تاريخها أزمات محدقة، حتى لو لم تصل للمستوى الذي نشهده اليوم. وفي هذا السياق أتذكر الوقت الذي انتشرت فيه الفاشية انتشار النار في الهشيم، وأنا لا أقصد هنا الفاشية بمعناها المعروف اليوم، بل كانت شيئًا لا مثيل لفظاعته. لكن في النهاية تم تجاوزها.

تشومسكي: في التحليل النهائي، يكون لدينا دائما خياران: إما أن نختار الاستسلام للتشاؤم و اللامبالاة، ونسهم بذلك في تحقيق أسوأ الاحتمالات. أو يمكننا استغلال الفرص الموجودة، وهي موجودة بالفعل، إلى أقصى مدى ممكن

واليوم ظهرت على الساحة، أشكال مذهلة للغاية من النشاط والانخراط في المجال العام، ، خاصة في أوساط الشباب. وهذا شيء يثلج الصدر. في التحليل النهائي، يكون لدينا دائما خياران: إما أن نختار الاستسلام للتشاؤم و اللامبالاة، ونسهم بذلك في تحقيق أسوأ الاحتمالات. أو يمكننا استغلال الفرص الموجودة، وهي موجودة بالفعل، إلى أقصى مدى ممكن، ونسهم بذلك في بناء عالم أفضل. ولا يبدو هذا خيارًا صعبًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

 ما وراء خطوط الشعبوية.. هل هو عصر إذابة الدولة القومية الحديثة؟