06-نوفمبر-2019

مقطع من لوحة لـ عقيل أحمد/ سوريا

1

"اللغة كساء الفكر"، والفكر ليس عورة، لكنّ اللغة بالنسبة إليه تُمثّل لباس الضرورة، الفكر الجيّد بحاجة إلى لغة جيدة لتأطيره وتقديمه في قوالب تعبيرية سليمة.

الصفة الثورية ليست جوهرًا في ذات الإنسان، إنما على الإنسان أن يعمل على إيجادها وبنائها داخل ذاته

لماذا أقول هذا الآن؟ أقوله لأدخل إلى عبارة أخرى حوّرتها عن العبارة الأولى لأقرّر فيها أنّ اللغة كساء الضعف، والضعفُ بالنسبة لي عورة يجبُ أن أواريه بثوب اللغة، في حالات ضعفي الكثيرة أستخدم اللغة لأواري سوأة الضعف. "أنا قوية"، أردّدها ثلاثًا كلّ مرّة، هكذا بصيغة إقرارية وتقريرية، "أنا قوية"، اللغة هنا تمثّل لباس الحاجة، لأنّ الضعف الكبير بحاجة إلى صيغ لغوية مخاتلة لتخفيه، لتمثّل وسيلة دفاعية ضدّه وضدّ حالاته، ولتقويه وتعمل على تقديمه في قوالب تقويمية سليمة.

2

أجمل عبارة غزلية يُمكن أن تُقال في حقّ كاتبة: نصوصكِ تقطر بالدسم، هذه العبارة تُنصِف فيها حسّ الأنثى دون أن تنتهكَ كيانها وتُقزّمه، إنّها تُشعرها بأنّها تدخل مطابخ اللغة من أوسع أبوابها، لتنتقي منها ما شاءت من الحروف والكلمات وتطهوها ببراعة منقطعة النظير ثمّ تُضيف إليها بهارات الاستعارات والكنايات والتصويرات، لتقدّمها بعدها على مائدة ممتدة لقارئٍ ذواق نهم، يَعرفُ طعم ذائقته الصعبة جيدًا، ولا يرضى أن يُشبعها سوى بالنصوص المكثّفة العميقة.

اقرأ/ي أيضًا: القراءة بوصفها ممارسةً تنويريةً

إنّها عبارة غزلية على شكل شهادة إنصاف تُثبِّت على الكاتبة حسّها الأنثوي العالي في الكتابة دون أن تنفي عنها صفتي العمق والتكثيف "كلمة الدسم"، ودون أن تُلبِسها صفات السطحية أو العاطفية الساذجة التي تختزلها مُصطلحات وعبارات مُجحفة أُخرى تُعرّف نصوصها ضمن أطر لا تخرج من حيّز "الكتابة النسائية" أو "الأدب النسوي" وغيرها.

3

كلّما تأمّلتُ في عنوان كتاب "بناء الذات الثورية" لعلي شريعتي، تطفو على ذهني تساؤلات حول ذاتي الثورية، ومدى تحقّقها داخلي، وحيثُ إنّ شريعتي يفترض أنّ الصفة الثورية ليست جوهرًا في ذات الإنسان، وأنّ على الإنسان أن يعمل على إيجادها وبنائها داخل ذاته، أي أنّه يقول بأنّه لا يوجد إنسانًا ولد ثوريًا وسيبقى ثوريًا للأبد، وأنّ بناء الذات الثورية يتطلب من الإنسان العمل على بنائها وتحقيقها داخل ذاته، فهذا يجعلني أسألُ نفسي: كيفَ لي أن أعرف أنّ ذاتي الثورية تحقّقت حقًّا داخلي؟ فبحسب شريعتي فإنّ الذات الثورية ليست جوهرًا في ذات الإنسان وإنّما تتحقَق في لحظة ممارسة ثورية على أرض الواقع. إذًا، فيجب عليّ أن أبحث عن لحظة آنية واحدة تكون هيَ بمثابة الشاهدة على تحقّق ذاتي الثورية ضمن ثوانيها، لا يعنيني ما قبلها وما بعدها، لا تعنيني سواها هيَ وما تحمله من شكل ممارسة ثورية خاصة بي أمارسها على أرض الواقع بما يتناسب مع قدراتي ومواهبي وتقديري لحدود إمكانياتي، فأيّ لحظة تلك التي تشهد على تحقّق ذاتي الثورية ضمن ثوانيها؟ أيّ لحظة تلك إذا لم تكن تُشبه هذه اللحظة التي أخطّ فيها هذه الحروف وأنا أبحثُ عن لحظة أخرى تكون شاهدة على تحقّق ذاتي الثورية ضمن ثوانيها؟ أيّ لحظة تلك إذا لم تكن لحظة الكتابة؟!

4

أجمل ما في الكتابة أنّه يُمكن تجاوز حالة الجفاف الفكري أو الأدبي التي تُصيبنا في حيّزها ببساطة وسلاسة؛ هذا التجاوز يحدث بالانطلاق منها كفعل يُمكن الكتابة عنه واستحضار حالاتنا معه، أنا أرى أنّ هناك متعة فائقة في سلوك هذا المنحى الحميمي لتجاوز حالة الجفاف الفكري أو الأدبي التي تُصيبنا، وأقولُ عنه حميمي لما يعتري الكاتب من مشاعر خاصة وهو يلتقي بحبيبته الكتابة على سرير رغبته بها -بدافع تجاوز حالة الجفاف التي يُعاني منها- فيكتب عنها. وفعليًا، أن يكتب الكاتب عن الكتابة فهذا يُشبه تمامًا أن يُمارس الحبّ معها، ولا أجمل من الكتابة سوى الكتابة عن الكتابة.

5

أحبّ أن يقول لي أحدهم "إنّ أسلوبيتك في الكتابة تتسّم بأنّها كذا وكذا وكذا"، ولا يعنيني من هذا القول لا الصفات ولا السمات حتى لو كانت في رأي محدّثي صفات سيئة بالكامل وسلبية بالمطلق، لا يهمني كثيرًا إن تكلّم محدّثي عن أسلوبيتي فأغدق عليها المدائح أو ذمها وانتقدها، كلّ ما يعنيني هو إقراره في حديثه بامتلاكي الأسلوبية، فكم هو صعبٌ على المرء أن يبني أسلوبًا فريدًا خاصًا به، إنّ هذه المسألة متعلقة أساسًا بسمة التفرّد، فلا يُمكن للإنسان أن يكون متفردًا دون أن يبني أسلوبًا، فالأسلوب هو شرط التفرّد، والتفرّد من خواص الأسلوب، ومهما بلغت درجة التشابه بين الأساليب فلا يُمكن لأسلوب ما أن يُشابه أسلوبًا آخر إلى درجة المماثلة والمطابقة، وإلا كان استنساخًا وتقليدًا وتبعية.

لا يُمكن للإنسان أن يكون متفردًا دون أن يبني أسلوبًا، فالأسلوب هو شرط التفرّد

ولربّما يجوز لي في هذا الموضع أن أقول أنّ كلّ شخص فينا بما هو نسخة فريدة من نفسه هو بشكل أو بآخر نموذج لأسلوب كياني فريد من نوعه، فكلّ كيان منا له طريقته المميزة في العيش والنظر والرؤية، فما نحنُ بفرادتنا وتمايزنا عن بعضنا سوى أساليب كيانية فريدة ومتفرّدة تمشي على الأرض.

6

لا شيءَ يُشعرني بالنشوة والإشباع كما يفعل الأدب، أقصد أحبّ دوري كقارئة له في صفته المكتوبة، وأحبّ لغته وهيَ تُشعرني بأنني أقفُ أمام حائك ماهر يُتقُن صَنعته، فلا صَنعة تُشبه حياكة اللغة الأدبية، إنّها صَنعة تحتاج إلى شروط خاصة، كأن تكون ضليعًا في الابتداع، أي أن تَجرؤَ على ارتكاب البدعة، وأن تنسى كلّ السنن، فلا يُمكن لأحد أن يستندَ في ابتكار لغته على المألوف والمعروف، ولا يُمكن لأحد أن ينجح في ابتكار لغته إذا لم يعمد إلى النسيان؛ نسيان كلّ السنن، وإذا لم يلجأ إلى الخَرقِ والاختراق.

اقرأ/ي أيضًا: الفنّ الذي يتيح لك أن تكون مجرمًا

أجل، في الأدب هناكَ لغة أدبية تخرقك وتخترقك، تخرقُ فيكَ سننك ومألوفك، تخترقُ فيكَ مقدّسك، تريكَ سحر الابتداع عبرَ حروف ما أن تقرأها حتى تشعر أنّك أمام معزوفة جمالٍ خالص، لكنّها على عكس كلّ جمال آخر في العالم قائمة في الأساس على النشاز، نشاز خلاق متمرّس في فنّ التمرّد، يُعلّمكَ وأنتَ تقرأه أنّ البدعة في اللغة الأدبية هي أجملُ الضلالات، لأنّها قادت صاحبها إلى ابتداع لغةٍ تشعرُ وأنتَ تقرأها بأنّك قد وجدت فيها ضالتك.

7

أحبُّ الجمال إلى قلبي ما جاء في صيغه المكتوبة، شِعرًا ونثرًا وقصًّا ورواية، أحبّ الجمال المكتوب الذي يُبدعه خالقه الأنسوي في أحسن الصور والتقاويم وكأنّه ينفخ فيه من روح الكمال الذي يشعر بها تسكنه منذ الأزل، أحبّ هذا الجمال الذي يَبدأه خالقه في جنينيته الأولى فكرة فحرفاً فكلمة فعبارة حتى يغدو عملاً كاملًا متكاملًا يُبصر فيه أوجه نقصه الكثيرة فلا يرى منها سوى وجهه وهو يُمسكُ طينته الأولى ويشكّلها بين يديه لتصيره، لتغدو هذا الجمال الذي ما أن أبصره أو تقع عيني عليه حتى أقول: تباركَ الإنسان أحسنُ الخالقين!

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحاديث في الجمال وما ورائياته

كارلوس ليسكانو: أن تكتب على أنقاض آخرِك!