20-أبريل-2023
غطفان غنوم في دور القائد عاصي

غطفان غنوم في دور القائد عاصي

لن تذهب شخصية القائد عاصي في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" إلى النسيان، فمثلها من الشخصيات تأتي كي تبقى علامةً في ذاكرة المشاهدين، وفي وعي صنّاع الأعمال الفنية من أجل مجادلتها وتطويرها.

‎القائد عاصي، كما يُدعى في المسلسل وعند المعجبين، شخصية مأساوية تصارع قدرًا لم يعطها ما هو حقها، كما تعتقد، ولهذا تمضي في تحدٍّ يتجاوز إمكانية الإنسان، لتسقط إلى القاع في النهاية.

لا شكّ أن عاصي كان يحتاج إلى مساحة أوسع من تلك التي ظهر فيها، كي يبدو تحوله من حليف إلى عدو لأخيه أكثر منطقية، لكنّ الشخصية نجت من ذلك النفق المعتم والمجازفة شديدة الخطورة بسبب الطاقة العاطفية التي بثها فيها الممثل غطفان غنوم، حين لوّن المشاعر ونوّع الأحاسيس التي بثها فيها، وما كان لذلك أن يحدث لولا فهمه العميق للشخصية من الداخل، إلى جانب فهمه لظروف الشخصيات المحيطة بها وطباعها، ونجح في ذلك بتقديم حياة الشخصية عبر خط بياني متماسك منذ ظهورها الأول وحتى أفولها، لكن كثيرًا من ذلك تبعثر خلال الحلقات التي اختفت فيها الشخصية اختفاء قسريًّا غريبًا، وأيضًا يعزى الأمر لسوء واضح في العملية الإخراجية، وهي مشكلة تحتاج الى وقفات كثيرة من أهل الاختصاص، خصوصًا في اللحظات الحاسمة التي قدمها المونتاج بشكل اعتباطي في مشاهد حساسة جدًّا لصيرورة الأحداث، مثل أن يأتي مشهد التخطيط لمؤامرة سياسية في نصف دقيقة، أو أن يمر مشهد شديد التأثير من خلال لقطات عامة غيّبت ردودًا من الأفعال التي كانت منتظرة من شخصية بحجم شخصية القائد، كمشهد اجتماع الضباط المتمردين مع السفير الأمريكي.

‎في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال"، نعرف أن القائد عاصي ذاهب نحو الهزيمة بخطى ثابتة، إلا أننا نتابع ذلك المسار لأن الممثل غطفان غنوم يواصل توريطنا في درب انهياره ببراعة

‎يواجه الممثل مشكلة تقديم رحلة الشخصية في الحياة، ويتطلب ذلك منه مزيجًا من التحليل والبحث والاستكشاف الإبداعي. وعليه أن يكون مستعدًا للتعامل مع شخصيته بعقل منفتح ورغبة في المخاطرة، واتخاذ خيارات جريئة في أدائها.

‎أعاد غطفان كتابة الشخصية جسديًّا، من خلال تحميلها كمية كبيرة من الغطرسة والمفاخرة والثقة المفرطة بالذات والانفعالية، وفي الاتجاه المقابل ذهب إلى الجانب المظلم فيها وقدمها ضعيفة غير ناضجة ومصابة بكسر داخلي، في مواقف أخرى. بسبب هذه التنويعة العاطفية المتناقضة والتي لا تخلو من مجازفة شديدة، بدت رغبته العنيفة في الحصول على السلطة التي يطرحها النص منطقية وطبيعية، فسعيه للخروج من ظل أخيه والاستقلال دفعه لأخذ العمل إلى حلبة الصراع الأزلية: الإخوة الأعداء.

‎ولأنه ظهر في أشكال إنسانية متنوعة: متغطرسًا بين رجاله، ماجنًا مع عشيقة سرية، باكيًا أمام أمه.. إضافة إلى تأثيره في تحريك الأحداث، بل في تفجيرها، بدا حقيقيًا لأمرين، الأول لدوره في الأحداث العامة، لكن الثاني، وهو الأكثر أهمية، هو ظهور حياته العارية كإنسان. من هنا بدت شخصية عاصي المأساوية منطقية أكثر من غيرها من شخصيات العمل الأخرى. ومأساويتها نابعة من عيب قاتل متأصل فيها، تفاقمه ظروف خارجة عن إرادتها. إنها سيرة سقوط لشخص طموح بدأ في موقع رفيع، لكنه انهار وهزم، بسببه هو نفسه قبل أي عدو خارجي.

‎الغريب أننا نعرف أن القائد ذاهب نحو الهزيمة بخطى ثابتة، إلا أننا نتابع ذلك المسار لأن الممثل يواصل توريطنا في درب انهياره ببراعة.

‎لا شك بأن الخبرة التي يكتسبها أي ممثل خلال سنوات عمل وتجارب طويلة ومتعددة مع مخرجين وكتاب مختلفين سترفد أداءه، لكننا هنا أمام حالة خاصة، يصنعها ممثل يتصدى لدور مركب في سيناريو يتحرك بتصاعد إيقاعي سريع، وذلك في أول تجربة حقيقة له في عمل درامي تلفزيوني، وأمام مجموعة من الممثلين المتمرسين، وفي رصيدهم سنوات خبرة طويلة، ويزيد من صعوبة التجربة كل ما نلمسه من الضعف الإخراجي الذي أشرنا إليه.

كان سهلًا أن نلاحظ خلال تتابع تطور الأحداث الافتراضية بدقة، تراكب المشاهد والحوارات وسياقاتها، أن الشخصية تدخل للمشهد وهي تعرف هدفها، تاركة للمشاهد أن يتخيل ماذا كانت تفعل قبل المشهد، وكذلك سيدرك بعد خروجها منه أن هنالك شيئًا ما سيحدث.

‎وقع على عاتق هذه الشخصية، في كثير من المشاهد، أن تبرر ردات فعل الآخرين في محيطها. ولو لم تكن شخصية عاصي بهذا العنف، كيف لنا أن نسير إذا مع النص باقتناع شديد أن المواجهة والانفجار قادمان؟

‎ظهر عاصي في كثير من المشاهد وكأنه يُغرّد وحده. بانفعالات وحشية حينما تتهدد السلطة، بحنية تصل لذرف الدمع حين تتهدد حياة الأم، أو بهدوء بارد مع الأتباع من الضباط، حتى يخيل لك بأن الشخصية يتمثلها غضب متواصل داخلي حتى في أشد حالات الهدوء.

‎مهما اختلف تقييمنا للعمل بشكل عام، أو لهذه الشخصية بشكل خاص، يبقى الفارق أننا تعرّفنا على ممثل ذي إمكانات بارزة، لديه في كلّ لحظة مفاجأة، تجعله يُمثّل حتى دون أن يتكلم، وكل حركة أو إيماءة تأتي منه إنما تأتي صافية، لأنها تخرج من ميزان الممثل العميق: قلب ذائب ومنطق صلب.