1. ثقافة
  2. نصوص

عن العود الأبدي في تجسيد متعدد

11 أكتوبر 2025
العود الأبدي (وكيبيديا)
العود الأبدي (وكيبيديا)
رند قنب رند قنب

- تجسيد عنف موسيقي

مرّت سنوات على كتابتي مدونة تحمل اسم "الألم من وجهة نظر حياة كائن مهمل". أعود اليوم إلى الفكرة ذاتها، بينما أفكّر في تلك السّيدة الّتي كتبتُ عنها منذ سنين مضت. أريد اليوم تسميتها بـ "السّيدة لا أحد". لربَّما أعود بعد سنوات لأكتب عن الفرح والمفاجآت.

هناك أشخاص ممن يقرؤون ما أكتب، يرون في كتاباتي الوجه التّعيس الثّاني لسيلفيا بلاث. وسؤال هُنا: هل جرّبت وضع رأسي في فرنٍ وإغلاقه؟ نعم، جرّبت بطريقةٍ مثيرة للضحك، وبطرقٍ عدّة منحطة. فالخرافة النيتشوية تحققت.

أنَّنا سنتصوّر كل شيء سيتكرر ذات يومٍ كما عشناه، وأنَّ هذا التّكرار أبدي، سأروي لكم تجسيدات عدّة تدعم فكرة نيتشه الّتي آمنت بها اليوم عن ظَهر قلب.

في كلِّ سنة يُصادف فيها الشّهر الثّامن من العام، تبدأ السّيدة "لا أحد" بحلمٍ ما. كأيِّ شخصٍ متحمس لإنجاز حلم، تشغّل مقطوعة "ضوء القمر"، وتغلق السّتائر، وتشعل ثلاث شمعات، وتشرع في كتابة مسرحية لها.

تغمض عينيها لثوانٍ متخيلةً قاعة تعجُّ بالحضور وتصفيق حار. ثمَّ تغفو على المنضدة، والمخاط يزين عينيها كأنه دموع فرح.

تغلق الباب بمفتاحٍ، وتفتح السّتائر لتراقب الخسوف والقمر وظلّ النافذة. كانت تلك أشياء تتكرر أبديًّا في حياتها: طاولة مرتبة، مشاهدة ظلّ، اقتحام، كسر الباب، رمي ما على ظهر طاولة الكتب، ترتيبها، ثمَّ الانهيار بالبكاء.

لو فرضنا معًا أنَّ تلك التكرارات اللانهائية تحصل أربع مرات في الأسبوع، أي ست عشرة مرة في الشّهر، ولو حوّلنا تلك الــ "ست عشرة مرة" شهريًّا إلى كتابة، لأنتجت السّيدة "لا أحد" ستة عشر عملًا مسرحيًّا جميلًا.

ولو نقلت تلك التكرارات الأبديّة التّافهة إلى أعمالها، لكان اسمها السيدة "لا أحد بلاث"، لقبٌ سيصبح دارجًا في عالم التّمثيل والتّدريس المسرحي.

سأشرح لكم بالتفصيل إسقاطي الخاص لنصل إلى النّهاية والعنوان هو مجرد "تجسيد".

بمعنى: شخصية بلاث المشؤومة تشبه إلى حدٍّ كبير شخصية السّيدة "لا أحد". حسب نيتشه: الأفعال والأحداث متكررة فقط. وحسب نظريتي أنا هناك وجهان متكرران: الأول؛ إنَّ أقدار البشر وصفاتهم وأفعالهم متكررة عبر خط وراثي أُسميّه "جوقة تؤدّي تراتيل المسيح".

الثاني أُناس يذهبون للصلاة يوم الجمعة مستمعين لرجال الدين بآخر صيحة. فلسفيًّا، بلاث هنا تشبه قدر السّيدة "لا أحد". سنرى ذلك في التّجسيدات الآتية.

بعد أن أغلقت السّيدة "لا أحد" الباب، وشرعت تراقص السّتائر على أنغام سيمفونية "ضوء القمر" لبيتهوفين، كانت تتخيل نفسها كاتبة عالميّة، وأنَّ نجمًا ما يراقصها.

يُكسَر الباب على حين غرّة بفأسٍ. تستيقظ السّيدة "لا أحد" من هذيانها، لترى من كوةِ الباب والدها. تظنُّ في البداية أنَّه جاك نيكلسون من فيلم "الشعاع".

تغرورق عيناها بالدموع تارةً، وبالضحك تارةً أخرى، إذ تظنُّ أنَّها شيلي دوفال، وأنَّها تتصوّر مشهدًا يهشّم فيه أبوها الباب بالفأس ذاته. بضحكةٍ تعلو قسمات وجه والدها، نفس الضحكة الّتي رسمت ملامح ذلك الممثل جاك نيكلسون المشهور.

بعد أن أغلقت السّيدة "لا أحد" الباب، وشرعت تراقص السّتائر على أنغام سيمفونية "ضوء القمر" لبيتهوفين، كانت تتخيل نفسها كاتبة عالميّة، وأنَّ نجمًا ما يراقصها

يدخل إلى الغرفة لأسبابٍ غير مفهومة، محطمًا بفأسه كلَّ ما يوجد فيها: كؤوس النبيذ، والسّجائر، على أنغام "ضوء القمر"، لينتهي بتحطيم الأسطوانة إلى هشيم.

ثمَّ يتّجه نحو السّيدة "لا أحد" ليبتر يدها اليمنى لأسبابٍ غير مفهومة أيضًا. عزيزي القارئ، سأترك لك التّفكير في السّبب.

مع نهاية هذا التّجسيد، رأيي هنا أنَّ السّيدة "لا أحد" تشبه بلاث بصراعاتها النّفسيّة، وأنَّ مشهدًا سينمائيًّا غير مفهوم أصبح يتكرر في كلِّ عام، ولكن بفارق بسيط: أُنقذت السّيدة "لا أحد" بوساطة بشري أرسله إله ممتعض من ألم زاد عن حدّه الطّبيعي.

---

- التّجسيد الثّاني: موت يشبه السيرك

فكّرت السّيدة "لا أحد" في الموت بطرقٍ مختلفة. منها ما كان تكرارًا لنظرية العود الأبدي، وفق سجلات المستشفيات، بأنَّ السّيدة "لا أحد" انتحرت ثلاث مرات: مرة بطريقة اعتباطية تشبهها، ومرتان تشبهان فيرجينيا وولف وسيلفيا بلاث. وفقاً لفتاة مثقفة في بداياتها، الّتي كانت تجهل كلاً من وولف وبلاث، مغرمةً ببودلير. نعم، أيُّها القراء، اضحكوا معي: فتاة في الثّامنة عشرة و"أزهار شر"... بعد أن انتهت من ديوان "أزهار الشر"، خرجت السّيدة "لا أحد)" إلى الشّارع، مرتديةً وشاحًا من دانتيل منسوجًا من صوف، ضافرةً شعرها إلى ضفيرتين إلى الخلف، ومرتديةً جوارب مخططة تشبه جوارب المهرجين إلى حدٍّ يثير اشمئزاز المهرج نفسه من ملابسه.

كان الوقت منتصف النهار، حوالي الساعة الثانية عشرة.

ولماذا يرغب شخص في الانتحار في منتصف النهار برأيكم؟ لربَّما ليُذكّر العالم بالتّفاهة الّتي يعيشها، وليُذكّر البشريّة بأنَّ تلك الحيوات الّتي يعيشونها تشبه السيرك، وكل بشري له مهمة خاصة أو شعور خاص لإرضاء غيره.

فمثلًا، لحظة خروج السّيدة "لا أحد" ووقوفها في وسط الشّارع كانت رغبة واجهتها بعد أن انفصلت عن حبيبها.

وقفت في وسط الشّارع، تنظر إلى سيارة تنسفها وتحطمها إلى أشلاءٍ، كعباس بن فرناس. أرادت الطيران، والتّخلص من مهزلة شعور سيبقى مقيدًا إياها ثلاث سنوات على أقل تقدير.

لحظة خروج السّيدة "لا أحد" ووقوفها في وسط الشّارع كانت رغبة واجهتها بعد أن انفصلت عن حبيبها

فالمهم: نسفت السّيدة "لا أحد" في وسط الشّارع، طارت كريشةٍ في وسط الأثير. تجمع الناس حولها، بعضهم يصرخ طلبًا لسيارة الإسعاف، وبعضهم الآخر يصوّر.

---

- التّجسيد الثّالث: موت يشبه المهرجين

في أثناء احتضارها، عندما كلّمها أحد الأشخاص مواسيًّا إياها بكلماتٍ استعراضيّة: "ابقي معي، سيارة الإسعاف ستأتي"، استجمعت قواها وبصقت عليه لأنَّه أفسد موتها.

بعضهم فسّر تلك اللّحظة كهذيان مطلق. نُقلت السّيدة "لا أحد" إلى المستشفى، لتعيش من جديد وسط حفلة التّفاهة الأخلاقيّة.

بعد مرور أعوام عدة، وفقًا لنظرية العود الأبدي، انتحرت السّيدة "لا أحد" بطريقة فيرجينيا وولف "المرة الّتي نجحت"، وبطريقة سيلفيا بلاث "مرة".

كتبت السّيدة "لا أحد" إلى زوجها رسالة مؤلفة من سطر: 

"إلى من يقف أمام تشييعي لنفسي دائمًا... أعتذر".

قرأ زوجها الرّسالة بعينين دامعتين، مندفعًا عبر السّلالم نحو المطبخ. كان يعلم بأنَّها تخبز فطائر التّفاح عند اكتئابها. فطائر لذيذة بطعم العجز، يذوقها كل يوم في المطبخ صباحًا، مقبّلًا أشهى وجه عرفه في حياته، راسمًا بسمة مريرة في كلِّ صباح.

دفع باب المطبخ بقوّة، باكيًّا كطفل، ليجد زوجته مسجاة على الأرض بين قشور التفاح. وقف أمام "تشييعها" لنفسها مرة أخرى، ضمّها إلى صدره باكيًّا، شادًّا على يدها، مقبّلًا وجهها "الشهي". كم كان يخاف خسارتها!

نظرية العود الأبدي هُنا لم تتحقق، لأنَّ زوج السّيدة "لا أحد" أحبَّها بصدق، بعكس زوج سيلفيا بلاث. كان حُبًا يشبه رؤيتك لانعكاس زهرة متجذرة بكأسها.

---

التّجسيد الرّابع: موت أخير يشبه العناق

قررت السّيدة "لا أحد" في صباحٍ صيفي السّباحة. أخذت ابنتها ذات الثلاثة أعوام إلى منزل الجيران، وهمست في أذنها: 

"سنخبز كعك التفاح احتفالًا بمجيء والدك من السّفر. انتظريني".

أومأت الفتاة لأمها موافقة، مقبّلةً إياها على جبينها، وكأيِّ طفلة تحبُّ انتظار المفاجآت، ذهبت تنتظر أمها على أريكة الجيران إلى أن تأتي.

مشت السيدة "لا أحد" فوق طريق عشبي، خالعةً فستانها الدانتيل الحريري (كما قتلت وولف نفسها)، مقيّدةً قدميها ورجليها بحجارة، وقفزت إلى البركة. بدأت السّباحة على ظهرها، طائفةً متأملة أوراق شجر الصّنوبر المشّعة والأوراق المتساقطة من جانبيها. ضحكت بفرح لنجاح "تشييعها" لنفسها، وبكت بجنون لأنَّ الموت بات في النّهاية عاطفيًّا مُنحطًا. موتٌ يشبه عناقًا، فكلُّ ما في الغابة يعانقها بسخرية: الأوراق والشّمس والضفادع. أغلقت السّيدة "لا أحد" عينيها وغرقت في قاع البركة مبتسمة..

كلمات مفتاحية
جون سنغر سارغنت لوحة "عيد الميلاد" (معهد مينابوليس للفن)

ضوء كنصل يخترق الأعين

نصّ إبداعيّ

لوحة الفنان ياسر الغربي

تاجر الخيط.. خطوط الكف

نصّ إبداعيّ

حقل قمح مع غربان (فان جوخ)

حتى الغربان ترمى بالحجارة.. حتى اللصوص تُذكَر

نصّ أدبي عن الوحدة والهجرة

كمال الشناوي - نور الشريف في الدورة الأولى من مهرجان القاهرة السينمائي (الأهرام)
فنون

من أين جاءت فكرة إنشاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؟

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

صورة تعبيرية
الترا لايت

فجوة الانبعاثات تتسع.. هل يمكن تحقيق أهداف اتفاقية باريس؟

تهدف اتفاقية باريس إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية بشكل كبير

فار
رياضة

قوانين كرة القدم.. 5 تغييرات تطالب بها الجماهير

بعد استطلاع أجرته شبكة بي بي سي، هذه هي أبرز التغييرات على قوانين كرة القدم التي طالبت بها الجماهير

حرب السودان
سياق متصل

السودان.. جدل المبادرة الرباعية وتحديات العمل الانساني في زمن الحرب

تشهد العاصمة الإدارية بورتسودان حراكًا مكثفًا، حيث استقبلت وفدًا من مسؤولي الأمم المتحدة من نيويورك، بالإضافة إلى وزير الخارجية المصري