22-أغسطس-2022
لوحة لـ محي الدين اللباد/ مصر

لوحة لـ محي الدين اللباد/ مصر

1

في كتابه "حصان نيتشه" يُورد عبد الفتاح كيليطو مقطوعة شذرية يقول فيها "يُرثى لقيس، ويُشفق على مصيره، لكن يُنسى أنّه اختاره طوعًا. كان يَعشق ليلى، ابنة عمه، وكان يُمكن للقصة أن تنتهي بتفاهة زواج لو امتنع، كما كان يتطلبه عُرف ذلك العصر، عن التغني بحبّه وإعلان اسم محبوبته. عجز عن السكوت، فلم يُقاوم غواية إشهار أشعاره، لم يكن يجهل مع ذلك أنّه ينتهك بذلك محرّمًا ويخسر ليلى نهائيًا. ما معنى ذلك، إن لم يكن أنّ حبّ الشعر كان أقوى عنده من حبّ ليلى؟ في سياق آخر، قال الجاحظ إنّ الكتاب أعزّ عند مؤلّفه من الولد"، وإنّ كيليطو يأتي في شذرته السابقة ليوضّح بأنّ قيس رغمَ أنّه كان يعشق ليلى إلا أنّه جَعل حبّه للشعر في مقدمة أولوياته، واختار التمرّد على عادات عصره عبر إنشاده للشعر في التغزّل في حبيبته ليلى، وذلك رغمَ معرفته بأنّ تداعيات كسر تلك العادات والتمرّد عليها ستؤدي به إلى فقدان ليلى للأبد.

لم يُقاوم مجنون ليلى غواية إشهار أشعاره، ولم يكن يجهل أنّه بذلك ينتهك بذلك محرّمًا ويخسر ليلى نهائيًا إلا لأن حبّ الشعر كان أقوى عنده من حبّ ليلى؟

وإنّه يُمكن تناول شذرة كيليطو السابقة في الحديث عن حالة غياب الطمأنينة لدى الشعراء عمومًا التي تدفع بهم غالبًا لاختيار الشِعر وجعله أولوية على ما سواه، حتى لو كان سواه هو المحبوبة التي يتوقون لوصلها والوصول إليها، وضمن هذا السياق، فإنّه يرد في كتاب "الأنثوية في الأدب: النظرية والتطبيق" لإبراهيم أحمد ملحم، بأنّ كتابة الشعر لدى الشعراء هي حالة ترتبط لديهم دائمًا بحضور القلق والبعد عن الطمأنينة، فبحسب الكتاب: "تقف وراء الشعر طاقة يُحركها القلق، والبعد عن الطمأنينة التي تميز الشاعر من غيره. وهذا القلق يرتبط بغريزة الحياة (إيروس) التي تنتمي إليها دوافع حفظ الذات، وحفظ الجنس، في حين تنتمي الطمأنينة إلى غريزة الموت (ثناتوس) التي تعني غياب الشعر"، وبناء على ما أورده الكتاب فإنّه يُمكن فهم سبب اختيار الكثير من الشعراء في الماضي خسارة المحبوبة على خسارة الحالة الشعرية في الكتابة لها والتغزّل بها، ويُمكن فهم سبب اختيار العديد من شعراء الماضي والحاضر لحياة الصعلكة الحرة الخالية من الزواج ومسؤولياته.

وبحسب الكتاب فإنّ العديد من الشعراء في الماضي لم ينظروا إلى الزواج من المحبوبة باعتباره حلًا لإنهاء معانتهم بقدر ما اعتبروه طريقًا أكيدًا لقتلهم بصفتهم شعراء، وذلك لأنّ زواجهم من محبوبتهم سيُلغي بالضرورة قدرتهم على نسج القصيدة الغزلية التي كان بُعد المحبوبة عنهم هو الدافع والمحرّض الأول لهم لكتابتها، أما اختيار الكثير من الشعراء لحياة الصعلكة الحرة الخالية من المسؤوليات، فيُمكن تفسيره كذلك على ضوء ضرورية حضور القلق واستمراره في حياتهم، فكأنّهم كانوا يعتبرون استقامتهم وحياتهم المطمئنة طريقًا أكيدًا لإضعاف حالتهم الشعرية شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى مرحلة قتلها بشكل نهائي.

2

عندَ ذِكر الشعر والشعراء في السياقات العربية، كثيرًا ما يحضر ذلك الربط بينهم وبين وادي "عبقر"، ومما يُورده عمر فاخوري في كتابه "الباب المرصود" عن عبقر بأنّه "موضع يكثر فيه الجن، ثمّ نسب العرب إليه كلّ شيء تعجبوا منه"، ويذكر الكتاب –ضمن السياق السابق- بأنّ كلمة عبقري أو Genius في أصلها اللاتيني تعني "الشيطان المؤاتي أو المفضّل"، ويؤكّد بأنّ العرب كانوا ينسبون عبقرية الشاعر وإلهامه الشعري إلى شيطان من الجنّ موجود في وادي عبقر يقوم بإلقاء الشِعر عليه، وإنّ العرب كانوا يُطلقون على هذا الشيطان مسمى "التابع" أو "الرائي"، ويعتقدون أنّه يظهر له ويقوم بتلقينه الشعر، وبحسب الكتاب فإنّ هناك العديد من الشعراء الذين كان تابعيهم من الشياطين الملهِمين لهم أسماء معروفة مثل "السنقناق" تابع بشار بن برد، و "مسحل بن أثاثة" تابع الأعشى.

وفي السياق السابق، يُمكن القول بأنّ العرب في الأزمنة القديمة كانوا يُبالغون في إقرار هذا الارتباط بين الشاعر وتابعه من شياطين الجنّ، وإنّ هناك العديد المقولات التي سادت عندهم وجاءت بما يُقرّ هذا الارتباط منها مقولة "الشاعر ظلّ شيطانه على الأرض"، و"هذا رجلٌ سقته الجنّ"، حيثُ إنّ المقولة الأخيرة سادت بين أهل "عسير الأعلى" وجاءت بادعاء يقول بأنّ الشاعر في حالة رغبته في نظم قصيدة، فإنّه يقوم بالصعود إلى قمة جبل في عسير حاملًا معه شاة يذبحها ويقدمها قربانًا، حيثُ يضطجع بعدها في ظلّ شجرة، وفي حال تقبّل القربان منه فإنّه يُحسّ وكأنّه يُسقى الشعر، فينهض ويقول شِعرًا.

كان العرب ينسبون عبقرية الشاعر وإلهامه الشعري إلى شيطان من الجنّ موجود في وادي عبقر يقوم بإلقاء الشِعر عليه، وكانوا يُطلقون على هذا الشيطان مسمى "التابع" أو "الرائي"

وتبعًا لذلك، فإنّ واحدة من العجائب التي ذكرها الفاخوري في كتابه السابق حول موضوع تابعي الشعراء من شياطين الجنّ هو قيام أحد الشعراء بالافتخار بتابعه عبر استخدام ألفاظ جندرية، يُقدّم عبرها تابعه باعتباره الذكر الوحيد الذي يتقدّم تابعي الشعراء الآخرين باعتبارهم تابعين إناث، حيثُ يقول: "إني وكلّ شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"، فكأنّ التمييز الجندري بين الذكر والأنثى لا يقتصر على عالم البشر بل يتعداه إلى عالم الجن كذلك!

3

هناك العديد من الروايات التي ترد بخصوص الشاعر بوكوفسكي وتروي عنه بأنّ حالة الإلهام لكتابة الشعر كانت لا تأتيه إلا وكؤوس الكحوليات موضوعة أمامه ومصبوبة وجاهزة، وإنّه بحسب كتاب "الباب المرصود" فأنّ هذا الاعتقاد بأنّ الإلهام الفني والشعري لا يأتي إلا عبر تناول المهيجات والكحوليات هو اعتقاد ساد عند العديد من الفنانين والشعراء في الغرب مثل: الكحول عند هوفمان، والكوكايين عند موباسان. هذان وغيرهما من الكتاب والشعراء كانوا يقومون بتناول هذه المهيجات كوسيلة لاستدعاء الإلهام واستحضار حالة الشعرية العبقرية، ويُمكن القول بأنّ هذا الاعتقاد الذي ساد عند الشعراء الغربيين يأتي كامتداد لفكرة الشيطان "التابع" أو الرائي" عند العرب، فكأنِّ هذا الربط بين نظم الشعر وحضور إلهام مصدره قوة خارجية (شيطان تابع أو رائي أو مهيج كحولي) هو شيء مشترك بين السياقات العربية والأوروبية، وكأنّ كتابة الشعر تتطلّب في كلّ الحالات الدخول في حالة نشوة وتغييب يُوصلان الشاعر إلى استنطاق مناطق عميقة في لاوعيه، وربّما كان اللاوعي هنا هو العامل الفعلي لكلّ إلهام يهبط على رأس الشاعر، ويجعله يُفسّر هبوط إلهامه عليه باعتباره فِعلًا من تابع شيطاني قرين، أو أثرًا من تأثير المخدّرات أو الكحوليات!