08-يناير-2017

(Getty) مظاهرة لنصرة حلب أمام السفارة الإيرانية في باريس

لم يمنع السوريون من التعبير السياسي والتظاهر منذ انقلاب البعث 1963 فقط، بل منعوا منذ قرون طويلة، وإذا كان مانع التظاهر مع مجيء حكم البعث هو مانع سياسي وأمني، فإن المانع في الزمن العثماني كان مانعًا دينيًا (فقهي سلطاني) وهذا المانع يتحول بفعل الوازع الديني إلى قناعة لا إكراه فيها، أي تتحول إلى حالة وجدانية تتجسد في الرضا عن الواقع والسلطان ممزوجة أحيانًا بالخوف من بطشه، أو بقناعة أخرى تجعل السلطان مكان الرسول أي تمنحه مكانة دينية علوية.

أظهر الحراك التظاهري في الثورة السورية حقيقة الشخصية السورية

أظهر الحراك التظاهري في الثورة السورية حقيقة الشخصية السورية التي صارت إليها منذ خروج السوريين من الحكم العثماني، وهي أنها شخصية بسيطة تنقاد للأصوات الأعلى، للأجسام الأقوى، للأكثر حضورًا وللأكثر خداعًا ونفاقًا، أما المخلصون والأنقياء ضعيفو الحضور أو ضعاف الشخصية، فهم عملة مرذولة بل هم محل سخرية عند المجتمع السوري عمومًا، لا سيما عند مجتمع الثورة، وبالأخص زمن التظاهرات تحت الخطر.

اقرأ/ي أيضًا: ما مصير كل هذه الصور؟

ينقاد جمهور الثورة في حراكها السلمي عمومًا إلى الصراخ وفرط الحركة القريبة من سلوك القطيع، وهو أمر مفهوم وملاحظ في كل نشاط حركي سلمي في تاريخ سوريا منذ التظاهرات ضد الفرنسيين مرورًا بالعهد الوطني، وربما كانت هذه المظاهر النفسية الفيزيولوجية أمرًا طبيعيًا ملازمًا للشعور بالقوة وفرط الحيوية والغضب اللازمين عن التجمع.

يوفر التظاهر والاحتشاد شعورًا آخر هو محصلة المشاعر سابقة الذكر، ويأتي تتويجًا لها، هو شعور السعادة، لأجل ذلك لم يتخل الشعب السوري عن التجمع والتظاهر لأي سبب من الأسباب، فالتجمع والتظاهر بما يوفره من مشاعر الطمأنينة والقوة والسعادة يتحول إلى إدمان ومن ثم إلى حاجة مستجدة لا يمكن لمن تعرف إليها، واعتادها أن يتخلى عنها أبدًا مهما كان الظرف، لذلك ليس غريبًا أن نسمع قصصًا عن شباب وشابات سوريات كانوا يعرفون أنه سيتم اعتقالهم أو يشعرون بدنو أجلهم ومع ذلك يذهبون إلى التظاهر. 

من هذه الزاوية النفسية قد يكون لهتاف "عالجنة طالعين.. شهداء بالملايين" معنى اختيار سعادة التظاهر مع معرفة ضمنية بأن هذه السعادة ثمنها الموت قتلًا، إن التظاهر بالنسبة للسوريين تحديدًا، كان بمثابة الذهاب إلى السعادة، أو الصعود إلى السعادة، التي حرموا منها كشعب تمنعه قوانين الطوارئ من الاجتماع، أو التجمع كأهم صفة جوهرية للمجتمع البشري، وهي صفة تتحول في الشرق إلى أكثر من واجب، تتحول إلى فضيلة، عكسها -أي الانفراد والانعزال عن المجتمع- هي رذيلة أو شذوذ. 

غياب "الذكاء الإداري" أمام الصراخ والقوة والغضب، أدى إلى فوضى في الثورة السورية

غياب "الذكاء الإداري" أمام الصراخ والقوة والغضب، وغياب الأذكياء أمام الأقوياء بأجسامهم المربوعة أدى إلى فوضى في الثورة، بمعنى انعدام الضبط والإدارة وغياب التخطيط، أكثر ما ظهر ذلك واضحًا في الشعارات، والمقولات غير المعلنه بداية.

اقرأ/ي أيضًا: الحانوتي.. تاجر الموت

هكذا أدى غياب الذكاء وانسحاب الأذكياء أمام تدفقات القوة والطاقة المنفلتة، أو غير المعقلنة، إلى تشوش في الرؤية أحيانًا. ومن ثم مع تحولات الثورة ودخول الخطاب الإسلامي إليها مترافقا مع اشتداد البطش والقتل من جانب قوات أجهزة الأمن ومليشيات الدفاع الوطني (الشبيحة)، ظهرت الهتافات الطائفية، مع ملاحظة أنه منذ الشهور الأولى للثورة ظهر هتاف "يلعن روحك يا حافظ"، وهو ما يعتبره البعض هتافًا ذا خلفية طائفية، وليس فقط تعبيرًا سياسيًا.

التظاهرات الأخيرة في ألمانيا بعد تدمير حلب:

هذه المرحلة الفوضوية التي يغيب عنها الذكاء الإداري، التي نعيش نماذج مجسدة عنها حتى الآن، في بعض تظاهرات سوريين في أوروبا يطغى عليها التعبير الإسلامي، ربما تكون مرحلة ضرورية، أو بالأحرى طبيعية ضمن التسلسل الطبيعي للتطور الاجتماعي، لكن يجب الانتباه إلى أن التطور الاجتماعي الطبيعي في هذا العصر المسيس -باعتبار السياسة هي أكثر العوامل ظهورًا وتاثيرًا فيه- ليس تطورًا تلقائيًا أو ذاتيًا، بل هو تطور تؤثر فيه نزعات إرادوية بعضها أناني، وبعضها لا يريد الخير للسوريين. 

وإذا كان مفهومًا ذهاب جزء من شارع الثورة باتجاه التعبير الإسلامي بسبب الضغط الأمني والقمع المفرط حدود القتل والتهجير والتدمير، فلن يكون هذا التعبير مفهومًا في التظاهر السوري في أوروبا، لاسيما في ألمانيا، حيث لا قمع ولا منع ولا اعتقال، إلا أن يكون هذا التعبير هو نتيجة العادة الموروثة من السنوات السورية الخمس الماضية، أو أن يكون بفعل أناني لفاعل أيديولوجي له غايات سياسية، أو بفعل اختراق ما، وهي كلها أسباب تتنافى مع مصلحة السوريين، وتتنافى أولًا مع جمال ورقيّ فعل التظاهر. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المشهد الجزائري.. نبل شعبي ولؤم حكومي

صورة الدكتاتور